سلسلة قلوب الصائمين / 7- امتلاء قلوب المؤمنين بالخوف من رب العالمين
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله القوي العزيز، صاحب البطش الشديد، فعال
لما يريد، كم أهلك من أمة كافرة؟! وكم أخذ من جماعة ظالمة؟! والصلاة
والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
ففي لقائنا هذا من لقاءات (قلوب الصائمين) نتحدث عن امتلاء قلوب المؤمنين بالخوف من رب العالمين، قال الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: ٦٣ ]
إن من الأمور التي تدعو العبد إلى زيادة الخوف من الله تعالى: كثرة المعاصي التي فعلها العبد ويخاف من سوء عاقبتها، فإذا كان أنبياء الله صلوات الله عليهم وسلامه يقولون: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
[الزمر: ١٣ ] فكيف بغيرهم من أفراد الناس، ومن طرق تحصيل خوف الله تعالى:
تصديق الله في وعده ووعيده، وذلك أن المرء يخاف أن يُدْخِلَه الله نار جهنم
ويعذِّبه بها، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: ١٥ – ١٦].
ومما يزيد الخوف في قلب العبد من ربه جل وعلا: معرفة تلك العقوبات العظيمة التي أنزلها الله بالأمم السابقة، فإن من تأمَّلَهَا وتَفَكَّرَ فيها زادَهُ ذلك خوفًا من الله تعالى، قال سبحانه: (قَالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
(34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا
فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [الذاريات: ٣٢ - ٣٧ ]
ثم إن العبد يخشى من ربه أن يوقع عليه العقوبات في الدنيا بسبب سوء عمله، قال تعالى في وصف من يتوسل إليه التوسُّل المشروع: (وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [الإسراء: ٥٧ – ٥٨].
إن ملاحظة الآيات الكونية وما قَدَّرَهُ الله من المخلوقات العظيمة يَزْرَعُ الخوف من الله في قلب العبد، قال تعالى: (هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ
الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ
يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: ١٢ - ١٣ ]، وقال سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: ٥٩].
إن تحصيل العلم الشرعي يُنْتِجُ الخوف في قلب العبد، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: ٢٨ ]
ومن أسباب تحصيل خوف الله جل وعلا أن يستشعر العبد أن الله يراقبه، ولا يخفى عليه شيء من أحواله، قال سبحانه: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: ٢٣٥ ]،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من طلب من العباد العوض
ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يكن محسنًا إليهم، ومن خاف الله فيهم ولم
يخفْهم في الله كان محسنًا إلى الخلق، محسنًا إلى نفسه، فإن خوف الله يحمله
على أن يعطيهم حقهم، ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فيهم، فهذا
ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج
أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم أو مراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء
أعظم من شرهم أو مثله، فإذا رجاهم لم يقم بحق الله فيهم، وإذا لم يخف الله
فهو مختار للعدوان عليهم؛ فإنَّ طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها، فكيف بمن
ظلمها، فتجد هذا الضرب من الناس كثير الخوف من الخلق كثير الظلم إذا قدر،
مهين ذليل إذا قُهِرَ، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع
الفتن بين الناس، وكذلك إذا رجاهم فهم لا يُعطونه ما يرجوه منهم، فلا بد أن
يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفًا من الله، والإنسان إذا لم يخف من الله
اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما
تستريح به وتدفع به الغَمَّ والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته
ما تستريح إليه، فتظنّ أن راحتها في المحرَّمات من فعل الفواحش وشرب
المسكرات وقول الزور واللهو والعبث ومخالطة قرناء السوء، ولا تطمئن نفسه
إلا بعبادة الله).
قال ابن حزم: (وقد علم الله تعالى أن كل مسلم لولا خوف
الله تعالى لأحب الأكل إذا جاع في رمضان، والشرب فيه إذا عطش، والنوم في
الغدوات الباردة عن الصلوات، وفي الليل القصير عن القيام إلى الصلوات
المندوبات، ووطء كل جارية حسناء يراها المرء، ولكن مخافة الله تمنع المؤمن
من ذلك).
إن الخوف من الله تعالى ينتج عنه فوائد عظيمة، منها:
ترك الذنوب والمعاصي، روى الحاكم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النظرة
سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانًا يجد
حلاوته في قلبه، ومن ترك المعاصي خوفًا من الله أجر وأثيب).
الخوف من الله سبب لرفع الدرجة في الجنة، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: ٤٦ ] وقال: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: ٤٠ - ٤١ ]، وفي حديث السبعة الذين يُظِلّهم الله يوم القيامة: (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
من استحضر مخافة الله في دعائه كان ذلك من أسباب إجابة الدعاء، قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: ٥٦ ]، وقال: (تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: ١٦ – ١٧].
مخافة الله سبب للتمكين في الأرض، قال تعالى: (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: ١٤].
مخافة الله سبب للاتعاظ والتذكر، قال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: ٤٥].
مخافة الله في قلب العبد تدفعه للإقدام على الطاعات، وفي الحديث: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
إذا استحضر المرء مخالفة الله في كل وقت دعاه ذلك لأن يكون مخلصًا لله في كل أعماله،
من خاف الله لم يتكبر على خلقه، ولم يتجبر على عباده.
وخوف الله يحمل العبد إلى إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم،
من خاف الله حقيقة لم يخف من غيره، قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: ١٧٥ ] فإذا اتحد مصدر الخوف اطمأنت النفس، وفي بعض الآثار: (من خاف الله خَوَّفَ الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خوفه الله من كل شيء)،
مخالفة الله سبب لمغفرة الذنوب، ففي الحديث: (أن
رجلًا وصى أبناءه بحرق بدنه وسحقه وذرِّه في الريح العاصف، فأمر الله بجمع
بدنه، وقال له: ما حملك على ذلك؟ فقال: مخافتك يا رب، فغفر الله له ذلك)،
لقد حرص سلف الأمة على الترغيب في الخوف والاتصاف به.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو).
قال الحسن البصري: (لقد مضى بين يديكم أقوامًا لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي ألا ينجو من عظم ذلك اليوم).
قال ابن مسعود: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه جالس في أصل جبل يخشى أن ينقلب عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا فطار).
قال ابن عباس: (وعد الله المؤمنين الذين خافوا مقامه وأدوا فرائضه الجنة).
وقال عمر بن عبد العزيز: (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء).
قال وهب بن منبه: (ما عُبد الله بمثل الخوف).
وقال الداراني: (أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف فهو قلب خرب).
قال ابن تيمية: (الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله).
وقال بعضهم: (إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه وطرد الدنيا عنه).
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.