الحمد لله الذي أعَدَّ الجَنَّةَ للمتقين، وأوجب الصيام لتحصيل التقوى في
قلوب المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
فإن التقوى تصدر أصالة من القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا) وكان يشير إلى صدره صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى بالتقوى فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [البقرة: ١٩٦]، وقال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: ١٩٧]، وقال: (قُلْ
يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) [الزمر: ١٠]، بل إن التقوى هي وصية الله للأمم السابقة والأمم اللاحقة (وللهِ مَا فِي السَمَاواتِ ومَا فِي الأرضِ ولَقَد وَصّينَا الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وإيَّاكُم أنِ اتّقُوا الله) [النساء: ١٣١] ومن أجل التقوى بَيَّنَ الله الآيات والأحكام، قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللهُ آيَاتِهِ للِنّاسِ لَعَلّهُم يَتَّقُون) [البقرة: ١٨٧].
والتقوى: وضْع وقاية بين العبد وغضب الله، وبينه وبين النار بفعل الطاعات وترك الذنوب، وقد فسر طلق بن حبيب (التقوى) بقوله: (التقوى: العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله، مخافة عذاب الله).
ومن أسباب التقوى: الصوم، قال تعالى: (يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعلَّكُم تَتَّقُون) [البقرة: ١٨٣ ]، قال السمعاني: (الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات).
وقال ابن تيمية: (مقصود الصوم التقوى).
وقد أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فإذا لم يحصل له مقصود التقوى فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك، وقال غيره: (في الصوم قتل الشهوة حسًّا، وحياة الجسد معنًى، وطهارة الأرواح بطهارة القلوب وفراغها للتفكر والخشية الداعية للتقوى).
وقال الشيخ ابن سعدي: (ذكر الله تعالى حكمة مشروعية الصوم فقال: (لَعلَّكُم تَتَّقُون) فإن
الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله، واجتناب نهيه،
فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل
والشرب والجماع، ونحوها من الأمور التي تميل إليها نفسه متقربًا بذلك إلى
الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى)
ومنها أن الصائم يدرِّبُ نفسه على مراقبة الله، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لِعِلْمِهِ باطلاع الله عليه.
ومنها: أن الصيام يضيِّقُ مجاري الشيطان، فإنه (يجري من ابن آدم مجرى الدم) فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي.
ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.
ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى،
والسؤال ما الذي يدفعنا إلى التقوى؟
ما الذي يجعلنا نحرص على أن نكون من أهلها، ما الذي يدفعنا إلى ذلك؟
يدفعنا تلك الثمرات التي نحصل عليها بسبب التقوى، فالتقوى سبب لرضا رب العالمين عن العبد، ومحبته له، (واللهُ يُحِبُّ المُتَّقِين) .
التقوى سبب للفهم والهداية والعلم، قال تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدَىً لِلمُتَّقِين) [البقرة: ٢ ]، وقال: (إن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَانَا ويُكَفِّر عَنكُم مِن سَيئَاتِكُم ويَغفِر لَكُم) [الأنفال: ٢٩].
التقوى سبب دخول الجنة، قال تعالى: (وسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّة ٍعَرضُهَا السَمَاواتِ والأرض أُعِدَّت للمُتَّقِين) [آل عمران: ١٣٣].
البر والفلاح مُعَلق بالتقوى، قال تعالى: (ولَكَّنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى واتُوا البُيُوتَ مِن أبوَابِهَا واتَّقُوا اللهَ لَعلّكُم تُفلِحُون) [البقرة: ١٨٩].
التقوى سبب لعون الله للعبد ونصرته، كما قال تعالى: (واعلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِين) [البقرة: ١٩٤].
التقوى سبب للخروج من المآزق، وسبب لِرَغَدِ العيش، (ومَن يَتَّقِي اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجَا ويَرزُقُهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِب) [الطلاق: ٢ – ٣].
التقوى سبب للمغفرة والرحمة (أولَئِكَ الّذِينَ امتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى لَهُم مَغفِرَةٌ وَأجرٌ عَظِيم) [الحجرات: ٣ ]، (واتَّقُوا اللهَ لَعَلّكُم تُرحَمُون) [الحجرات: ١٠ ]، (إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ اتقَاكُم) [الحجرات: ١٣].
التقوى سبب للبركة في الأرزاق (وَلَو أنَّ أَهلَ القُرَىَ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفتََحنَا عَلَيِهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاء ِوالأرض) [الأعراف: ٩٦ ]
ما ظنك بمن كان الله معه (إنَّ اللهَ مَعَ الّذِينَ اتَّقَوا وَالّذِينَ هُم مُحسِنُون) [النحل: ١٢٨].
ولئن أصاب المتقين ما أصابهم إلا أن العاقبة الحميدة لهم، قال تعالى: (والعَاقِبَةُ للِتَّقوَى) [طه: ١٣٢ ]، وقال: (إنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُهَا من يَشَاءُ مِن عِبَادِه والعَاقِبَةُ للِمُتَّقِين) [الأعراف: ١٢٨ ]، وقال: (واللهُ وَلِيُ المُتَّقِين) [الجاثية: ١٩ ]، (ومِن يَتَّقِي اللهَ يَجعَل لَهُ مِن أمرِهِ يُسرَا) [الطلاق: ٤ ]
فالدافع الذي يحرك المؤمنين لاستجلاب التقوى أسباب عديدة، منها:
أولًا: أن الله أمر بها، والمؤمنون يبادرون إلى امتثال أمر الله، قال تعالى: (واتَّقُوا اللهَ الّذِي أنتُم بِه مُؤمِنُون) [المائدة: ٨٨ ]، وقال: (يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلَّا وأنتُم مُسلِمُون) [آل عمران: ١٠٢ ] .
وثانيًا: عظم الفوائد المرتبة على التقوى في الدنيا والآخرة (ومَن يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ ويَخشَىَ اللهَ ويَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُون) [النور: ٥٢ ]، قال الله تعالى: (ويُنَجِّي اللهُ الّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُوءُ ولا هُم يَحزَنُون) [الزمر: ٦١ ]، وقال: (فَأمَّا مَن أعطَىَ واتَّقَىَ وصَدََّقَ بِالحُسنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى) [الليل: ٥ – ٧].
وثالثًا: أننا نستشعر بتقوى الله مراقبة الله لنا، فنستحي أن يطَّلِع منا على ما يخالف التقوى، قال تعالى: (واللهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِيِن) [آل عمران: ١١٥ ]، وقال سبحانه: (واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَات ِالصُدُور) [المائدة: ٧ ] ونحن نعلم أننا عما قريب سنرجع إلى الله كما قال تعالى: (واتَّقُوا اللهَ واعلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِين) [البقرة: ٢٢٣ ]، وقال سبحانه: (واتَّقُوا اللهَ الّذِيِ إليهِ تُحشَرُون) [المائدة: ٩٦ ] .
ورابعًا: أن التقوى صفة أولياء الله الذين يحبهم الله ويتولاهم، ويكونون تحت ولاية الله، قال تعالى: (ألا
إنَّ أَولِيَاءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم ولا هُم يَحزَنُون الّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون لَهُمُ البُشرَىَ فِي الحَيَاةِ الدُنيَا وفِي
الآخِرَة لا تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيم) [يونس: ٦٢ – ٦٤].
لكن كيف نحصل التقوى؟
تحصيل التقوى يكون بالاتصاف بصفات المتقين، قال تعالى: (أُعِدّت
للِمُتَّقِين الّذينَ يُنفِقُونَ فِي السرَّاءِ والضَرَّاءِ والكَاظِمِينَ
الغَيظَ والعَافِينَ عَن النّاسِ واللهُ يُحِبُ المُحسِنين) [آل عمران: ١٣٣ – ١٣٤].
احصل على التقوى لأنها سبب دخول الجنة (ولَنِعمَ
دَارُ المُتَّقِين جَنَّاتُ عَدن ٍ يَدخُلُونَهَا تَجرِي مِن تَحتِهَا
الأنهَار لَهُم فِيهَا مَا يَشَاءُون كَذَلِكَ يَجزِي اللهُ المُتَّقِين) [النحل: ٣٠ - ٣١ ]، (لَكن الّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُم لَهُم غُرَفٌ مِن فَوقِهَا غُرَفٌ مَبنِيّة تَجرِي مِن تَحتِهَا الأنهَار) [الزمر: ٢٠ ]، (إنَّ
المُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وعُيُون ادخُلُوهَا بِسَلام ٍآمِنِين ونَزَعنَا
مَا فِي صُدُورِهِم مِن غِلٍّ إخوَانا ًعَلَى سُرُر ٍمُتَقَابِلِين لا
يَمَسّهُم فِيهَا نَصَبٌ ومَا هُم مِنهَا بِمُخرَجِين) [الحجر: ٤٥ – ٤٨].
تحصل التقوى بتدبُّر القرآن وتفهُّم معانيه (واذكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلّكُم تَتَّقُون) [البقرة: ٦٣ ]، (ولَقَد
ضَرَبَنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا القُرءَانِ مِن كُلِّ مَثَل ٍلَعَلّهُم
يَتَذَكَّرُون قُرءَانَاً عَرَبِيَّا ًغَيرَ ذِي عِوج ٍلَعَلَّهُم
يَتَّقُون) [الزمر: ٢٧ - ٢٨ ]
تحصل التقوى بالتفكر في أحوال أهل النار الذين يقول الله فيهم: (لَهُم مِن فَوقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ومِن تَحتِهِم ظُلَل ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بهِ عِبَادَه يَا عِبَادِي فَاتَّقُون) [الزمر: ١٦].
ومن سبل تحصيل التقوى التعاون من المؤمنين على الخير، قال تعالى: (وتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ والتَّقوَى) [المائدة: ٢].
يمكنك أيها العبد أن تحصل تقوى الله باستشعار أن الله هو الذي خلقك (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُم مِن نَفس ٍوَاحِدَة) [النساء: ١].
حَصِّل التقوى بالنظر في نعم الله عليك (واتَّقُوا اللهَ الّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعلَمُون أَمَدَّكُم بِأنعَام ٍوبَنِين وَجَنَّات ٍوَعُيُون) [الشعراء: ١٣٢ – ١٣٤].
احْصِل على التقوى من خلال تذكّرِك ليوم القيامة وأهواله (اتَّقُوا رَبَّكُم إنَّ زَلزَلَةَ السَاعةِ شَيءٌ عَظِيم) [الحج: ١].
تحصل التقوى بسؤال الله ودعائه أن يجعلك من المتقين، فإن التقوى نعمة من الله للعبد، قال تعالى: (ونَفس ٍومَا سَوَّاهَا فَألَهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقوَاهَا) [الشمس: ٧ – ٨].
اللهم اجعلنا من المتقين، وصلى الله على نبينا محمد