سلسلة قلوب الصائمين / 5- تدبر القرآن
الحمد لله الذي أنزل القرآن شفاءً لما في الصدور، وهدى وموعظة للمتقين،
وأشهد أن لا إله إلا الله كلامه صدق وحق مبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
فإن من عبادات قلوب المؤمنين: تدبر القرآن، وخصوصًا في شهر رمضان، قال تعالى: "شهرُ رَمَضَان الّذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآن هُدىً لِلنّاسِ وَبيّناتٍ من الهُدَى والفُرقَان"
[البقرة: ١٨٥ ] ومن أعظم القربات، وأعظم المواعظ، وأفضل أسباب حياة القلوب
تدبر القرآن، والتفكر في قصصه ومواعظه، وحججه وبيناته وأدلته (لَو أنزَلنَا هَذَا القُرءَانَ عَلَى جَبَل ٍلَرَأيتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِن خَشيَةِ الله) [الحشر: ٢١].
أيها المؤمن اسمع ربك وخالقك المتصرف في الكون يقول: (وكَم
أهلَكنَا قَبلَهُم مِن قَرن ٍهُم أشدُّ مِنهُم بَطَشَا فَنَقّبُوا فِي
البلادِ هَل مِن مَحِيص إنَّ في ذَلِكَ لَذكرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أو
ألقَى السَمعَ وَهُوَ شَهِيد) [ق: ٣٦ – ٣٧].
قال ابن القيم –رحمه الله – في تفسير هذه الآية: (الناس
ثلاثة رجال: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فليست هذه الآية ذكرى في
حقه، وهو بمنزله الأعمى الذي لا يبصر، والثاني: رجل له قلب حي مستعد، لكنه
غير مستمع للآيات المتلوة، التي يخبر الله بها عن الآيات المشهودة، إما
لعدم ورودها إليه، أو لوصولها إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهذا أيضًا لا
تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه، فهو بمنزلة البصير الذي يشاهد جهة
غير الجهة التي يستفيد من النظر إليها، والثالث: رجل قلبه حي مستعد تليت
عليه الآيات فأصغى بسمعه، وألقى السمع وأحضر القلب، ولم يشتغل بغيره، فهو
شاهد القلب، ملقى السمع، فهذا الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة).
فمن كان له قلب وقّاد يَستخرج العبر ويتفهم المعاني من الكتاب العزيز، فهذا
الذي يكون للآيات القرآنية نور في قلبه، وهؤلاء هم أكمل خلق الله، وأعظمهم
إيمانًا وبصيرة، وقال تعالى: (أفلا يَتَدَبّرُونَ القُرآن أم عَلَى قُلُوبٍ أقفَالُهَا) [محمد: ٢٤ ]، وهذا إنكار على من يعرض عن تدبر القرآن، وقال: (أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآن ولَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختِلافَاً كَثيرَا) [النساء: ٨٢ ]، وقال: (أفَلَم يَدبّرُوا القَولَ أم جَاءَهُم مَا لَم يَأتِي آبَاءَهُمُ الأوَلِين) [المؤمنون: ٦٨ ]، وقال: (كِتَابٌ أنزلنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أولُوا الألبَاب) [ص: ٢٩].
وقد ذم الله جل وعلا المعرض عن هذا القرآن بما يشمل المعرض عن تدبره، قال تعالى: (ومَن أظلَمُ مِمّن ذُكِّرَ بِآياتِ رَبّهِ فَأعرَضَ عَنهَا) [الكهف: ٥٧ ]، وقال: (ومَن أظلَمُ مِمّن ذُكّرَ بآياتِ رَبّهِ ثُمَُّ أعرَضَ عَنهَا) [السجدة: ٢٢].
ومن لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم، أي لم يشتغل بتفهمها وإدراك
معانيها والعمل بها، فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق الإنكار
والتوبيخ المذكور في هذه الآيات، وترك تدبر القرآن من أنواع هجر القرآن
الداخل في قول الله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: ٣٠].
قال العلامة الشنقيطي: (الحق الذي لا شك فيه أن كل من
له قدرة من المسلمين على التعلم والتفهم وإدراك معاني الكتاب والسنة يجب
عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما).
إن من أعظم ما يدعو الإنسان إلى التدبر في كتاب الله: ما احتواه هذا الكتاب من الخير العظيم، قال تعالى: (يا أيُّهَا النّاسُ قَد جَاءَكُم بُرهَانٌ مِن رَبِّكُم و أَنزَلنَا إليكُم نُورَاً مُبِينَا) [النساء: ١٧٤ ] وقال: (قد
جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُبِين يَهدِي بهِ اللهُ مَنِ اتّبَعَ
رِضوَانَهُ سُبُلَ السّلام ويُخرِجُهُم مِنَ الظُلُمَاتِ إلى النورِ
بِإذنِهِ ويَهدِيهِم إلى صِرَاطٍ مُستَقيم) [المائدة: ١٥ - ١٦ ]، وقال: (ما كُنتَ تَدرِي مَا الكِتابُ ولا الإيِمَان ولَكَن جَعلنَاهُ نُوراً نَهدِي بِه مَن نَشَاءُ مِن عِبَادِنَا) [الشورى: ٥٢ ]، فإذا كان القرآن نورًا فكيف تعمى بصيرة عاقل عن الاستضاءة بذلك النور.
ومن فضل الله علينا في عصرنا الحاضر أن استجد لنا من وسائل التقنية وآلات
الاتصال ما يمكِّن المرء من قراءة القرآن وسماعه وتدبُّرِه في أي مكان، مما
يسهل عليه فهم القرآن وتدبره.
قال الثعالبي: (تدبر القرآن كفيل لصاحبه بكل خير).
وقال ابن سعدي: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) فيه
خير كثير وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به
في الظلمات، وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على
كل مطلوب ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه الله. (لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ)،
أي هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته فيستخرجوا علمها، ويتأملوا
أسرارها وحِكَمَهَا، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها
مرة بعد مرة تُدْرَك بركَتُهُ وخيْرُه، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن،
وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة
التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود، وبحَسَبِ لُبِّ الإنسان وعقله
يحصُلُ له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب).
وقال ابن القيم: (فليس شيء أنفع للعبد في معاشه
ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على
معاني آياته، فإنها تُطْلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى
طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتضع في يده مفاتيح
كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبِّتُ قواعد الإيمان في قلبه، وتُرِيه
أيام الله في الأمم السالفة، وتبصِّرُه بمواقع العِبَر، وتُشْهِدُهُ عَدْلَ
الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته، وأفعاله وما يحبه، وما يبغضه،
وصراطه الموصل إليه).
ومفتاح حياة القلوب: تدبر القرآن، والضراعة بالأسحار، وتوبة العبد وتركه للذنوب،
والذي يدعو لتدبر القرآن عدد من الأمور، منها:
أولًا: طاعة أمر الله جل وعلا الذي أمر بتدبر القرآن، قال تعالى: (إنّا جَعَلنَاهُ قُرءَانَاً عَرَبِيَاً لَعَلّكُم تَعقِلُون) [الزخرف: ٣].
وثانيها: أن تدبُّرَ القرآن يعرف العبد بمعالم الخير والشر وطرقهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وكيفية التمييز بينهما.
وثالثها: أن تدبر القرآن يثبت الإيمان في القلب ويرسخه بقواعد متينة.
ورابعها: أن تدبر القرآن يزيد في عقل الإنسان من خلال مطالعة عواقب الأمور، ومعرفة ما حل بالأمم السابقة.
وخامسها: أن بتدبُّر القرآن يعرف المرء معاني أسماء الله الحسنى، ويتعرف على ما يحبه الله ويرضاه، فيستجلب بذلك رضا الله رب العالمين، وخير الدنيا والآخرة.
وسادسها: أن المرء بتدبُّر القرآن يتمكن من تطبيق القرآن على نفسه،
بل ويمكنه من تعرّفُ صفات نفسه، ليتمكن من معالجتها بما يناسبها، وبتدبُّر
القرآن تزول كثير من وساوس الشياطين، ويتمكن المرء من صَدِّ هذا العدو
عنه.
وأما الوسائل المعينة على تدبر القرآن:
فترتيل القرآن وحسن قراءته،
واختيار الأوقات المناسبة لقراءته،
وتفريغ القلب من المشغلات وقت قراءته،
ومراجعة تفسيره من السنة النبوية، وكلام أهل اللغة، وما كتبه المفسرون الموثوقون،
وأعظم من ذلك كله سؤال العبد لربه أن يُفَهِّمَه معاني كتابه،
وأما ثمرات القرآن فحدِّث ولا حرج،
ثمرات تدبّر القرآن أعظم من استيعابها من مثلي، إذ إنني أعلن عجزي عن استتمام ذكرها.
فتدبر القرآن إن رمت الهدى === فالعلم تحت تدبر القرآن
أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم قلوبًا تفهم كتاب الله، وتعرف معانيه،
وتدرك أسراره، كما أسأله جل وعلا أن يفتح علينا وعليكم من أبواب فهم القرآن
ما يقرِّبُنَا إلى رضاه، ويرفع درجاتنا عنده، ويُعْلِي منزلتنا في جنته،
ويجعلنا من المقربين عند رسله، كما أسأله جل وعلا أن يفتح لنا أسرار كتابه.
هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.