سلسلة قلوب الصائمين / 1- الصيام وصلاح القلوب
الحمد لله رب العالمين ..فعّال لما يريد ..لا رادَّ لما قضى ولا معقّب لما
حكم .. يتصرف في أحوال العباد وجوارحهم كيف يشاء ..إذا قضى أمرًا فإنما
يقول له كن فيكون ..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تتوجه قلوب
الموحدين إليه وحده بعباداتهم وسؤالهم وتضرّعهم ..وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله كان يكثر في دعاءه من قول اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
..صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرا ..
أما بعد فإخواني الكرام ..
أهنئكم دخول شهر رمضان .. شهر الخير والبركة ..شهر زراعة التقوى في قلوب الصائمين ..
وأبتدئ معكم في هذا البرنامج في الحديث عن القلوب التي عليها معوّل كبير كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } رواه مسلم .. واسمع لقول الله تعالى: (إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال: ٧٠)
ولذلك حرص المؤمنون على دعاء الله تعالى بإصلاح قلوبهم ، فكان من دعائهم { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } وكان من دعائهم { اللهم حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا } ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :{ اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، اللهم يا مصرف القلوب اصرف قلبي لطاعتك }
وذلك لأن تثبيت قلب العبد على الدين وانصرافه إلى الحق من أعظم أسباب
النجاة والفلاح ، والعصمة عن كثير من الذنوب ، ويدلّك على أهمية الاعتناء
بالقلب ما يأتي :
أولا ً: أن القلب مصدر الأعمال والاعتقادات قال تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :{ ألا إن في القلب مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :]المقصود
بالدعوة وصول العباد إلى ما خُلقوا له من عبادة ربهم وحده لا شريك له ،
والعبادة أصلها عبادة القلب المستجمع للجوارح .. فإن القلب هو الملك
والأعضاء جنوده ].
وثانيا ً: أن الأجر والثواب يكون على مقدار ما في القلب من النيّة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى } .
وثالثا ً: أن القلب سريع التقلّب كما ورد في الحديث { إن قلوب بني آدم بين أصبُعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء } . قال ابن عمر :]كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا ومقلّب القلوب ] ، وفي حديث أنس : d]مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلّبها الرياح ] .
ورابعا ً: أن الشياطين تُلقي الوساوس في قلوب العباد ، فتؤثر على عمل العبد ومعتقده وتصوراته ، قال تعالى(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام: ١٢١) وقال: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: ٤٣). قال ابن عباس :]إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس ].
وخامسا ً: أن القلب أداة يتمكن الإنسان بها من الفهم الصحيح ، والتفريق بين الحق والباطل ،قال تعالى (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (النحل: ٧٨) وفي المقابل قال تعالى : (
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا
أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) (الأحقاف: ٢٦)
وقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: ١٢٥)
وسادساً : أن الله تعالى سيسأل العبد يوم القيامة عن قلبه كما قال تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: ٣٦)
وللصوم تأثير عجيب في القلوب ،وذلك لأن الصوم فيه كسر لشهوة البطن والفرج
الموجبة لتصفية القلب ، ثم إن الصائم يبتعد عن المعاصي فيؤثر ذلك في صفاء
قلبه ، قال أبو سليمان : ] الرين والقسوة زماما الغفلة ودواءهما إدمان الصوم ] ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يستطع الباءة والزواج من الشباب بالصوم وقال { فإنه له وجاء } ..
ومن هنا كان للصائم دعوة لا ترد لما في الصوم من كسر الشهوة وحضور القلب والتذلل للرب ، قال ابن القيّم رحمه الله :k]وللصوم
تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط
الجالب لأهل المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، فالصوم يحفظ
على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما سلبته منها أيدي الشهوات ، فهو
أكبر العون على التقوى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ الصوم جُنّة
} والمقصود أن مصالح الصوم لمّا كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر
المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة بهم وإحسانا ً إليهم وحمية ًلهم وجُنّة ، وقال : إن
الصائم ليتصور بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا في تحصيل رضا الله ، وأي
حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة وتقنع النفس وتُحي القلب
وتفرحه وتزهّده في الدنيا وشهواتها وترغّبه فيما عند الله ]..
وقال بعضهم :في الصوم غذاء للقلب ، كما يغذي الطعام الجسم ،
ولذلك أجمع مجرّبة أعمال الديانة من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه على أن مفتاح الهدى والصحة هو الجوع لأن الأعضاء إذا وهنت لله
نوّر الله القلب .. وصفّى النفس .. وقوّى الجسم ليظهر أمر الإيمان بقلب
العبد ...
أسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن حصّل التقوى بصيامه .. وأسأله
جلَّ وعلا أن يتقبّل منا ومنكم الصيام وأن يعيننا في هذا الشهر الكريم على
عبادته ...
اللهم اجعل قلوبنا في هذا الشهر الكريم ممن استحضرت عظمتك ، ووجلت منك ورجت ما لديك ..
اللهم يا حي يا قيّوم أصلح شأننا كله .. هذا والله اعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...