سلسلة قلوب الصائمين / 6- حسن التوكل على الله
الحمد لله رب العالمين، ينعم على عباده ويصرِّف شؤونهم، نحمده سبحانه
ونشكره، ونثني عليه بما هو أهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما
بعد.
فإن من عبادات القلب التي يعظم أجرها ويكثر ثوابها: حسن التوكل على الله.
والمراد بالتوكل على الله: صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب
المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، مع تفويض الأمور إلى الله،
وتحقيق الإيمان بأنه النافع الضار، لا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع أحد
سواه مع فعل الأسباب، فالتوكل على الله هو الثقة بما عند الله، الثقة بما
وعد الله به. و يكون المؤمن في جميع أعماله ، وفي جميع شؤون حياته متوكلًا
على الله،
ومن أمثلة ذلك:
إذا هَمَّ الإنسان بأداء عمل لتحقيق هدف معين تَوَكَّلَ على الله في تحقيق تلك الأهداف، قال سبحانه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: ١٥٩].
وعند تكالب الأعداء على المسلم يتوكل المسلم على ربه في دفع شرورهم مع
بَذْلِ الأسباب في ذلك فينجيه الله تعالى من شرورهم، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء: ٨١ ] وقال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: ٥١ ] وقال: (وَمَا
لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا
وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: ١٢].
وعند إعراض المدعوِّين عما تدعوهم إليه من الخير والفضيلة توكل على الله، قال تعالى: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء: ٢١٦ - ٢١٧ ]، وقال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: ١٢٩].
وعند مقابلة العدو في القتال وحصول القتال يُشْرَع تذكر أن النصر من عند
الله، ويشرع التوكل على الله لينصر الله دينه ويُعْلِي كلمته، قال تعالى: (إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ
ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: ١٦٠].
وعند حلول المصائب يتوكل المؤمن على ربه فينَجِّيه الله منها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: ٤١ – ٤٢].
وعند التنازع والاختلاف يتوكل المؤمن على ربه، ويعود إلى كتابه العزيز، قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشورى: ١٠].
فتتوكل أيها المؤمن على الله أن يعينك على طاعته، وأن ييسر لك أمر دنياك
وآخرتك، وأن يهديك لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، وتتوكل على الله في دفع
شرور الأعداء، وكَبْتِ ما يريدون بك من سوء.
ومن فوائد التوكل على الله: أن التوكل من أسباب محبة الله للعبد، قال تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: ١٥٩ ]،
والتوكل سبب لنعيم الآخرة (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى: ٣٦].
ومن فوائد التوكل على الله: طرد الشياطين عن المؤمن المتوكل، قال تعالى: (فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: ٩٨ – ١٠٠].
وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج
الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله،
يقال له: هُديت وكفيت ووقيت، فتتنحى عنه الشياطين، فيقول شيطان لآخر: كيف
لك برجل قد هدي وكُفِيَ ووُقي).
ومن فوائد التوكل: أنه من أسباب الرزق، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا)، وقال: (مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل).
ومن فوائد التوكل: راحة البال، وطمأنينة النفس، وهدوء القلب.
ومن فوائد التوكل: عصمة العبد من معاصي الله.
والتوكل من أسباب دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب مع السبعين ألفًا.
ومن فوائد التوكل: وقاية الله لعبده المتوكل من مصائب الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: ١٧٣ - ١٧٤ ]، وقال الرجل المؤمن من آل فرعون: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) [غافر: ٤٤ – ٤٥].
وتتعدد الأسباب التي تجعل المؤمن يتوكل على ربه، ومن ذلك
أن الأمور كلها بيد الله، فهو سبحانه الذي يتصرَّف في خلقه بما يشاء، قال تعالى: (وَلِلَّهِ
غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) [هود: ١٢٣ ]، وقال: (إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا
هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: ٥٦].
ومن أسباب التوكل: أن الله مطلع على أحوال الخلق، لا يخفى عليه شيء منها، قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: ٢١٧ - ٢١٩ ]
والمؤمن الذي يكون على الحق ينتظر معونة الله فيتوكل عليه، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: ٧٩].
إن الله جل وعلا وعد من تَوَكَّلَ عليه بأن يكفيه، قال تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: ٤٨ ]، وقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: ٣].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفي حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن لا حول ولا قوة إلا بالله: (هي كنز من كنوز الجنة)، والكنز
مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع، وذلك أنها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله،
ومعلوم أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء
إلا ما أحدثه الله فيهم، فإذا انقطع القلب للمعونة منهم وطلبها من الله
وحده فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس: ١٠٧ ]، وقد حصر الله المؤمنين في المتوكلين (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: ٢] مما يدل على أن المؤمن إنما يتوكل على الله وحده، وهذا معنى قوله: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) [الإسراء: ٢].
روى ابن ماجه بإسناده: (أن من قلب ابن آدم بكل وادٍ شعبة، فمن اتَّبَع قلبه الشعب كلها لم يبال الله بأي وادٍ أهلكه، ومن توكَّلَ على الله كَفَاه التشعب).
قال العز بن عبد السلام: (التوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال، والإكثار والإقلال).
ومما يدخل في مفهوم التوكل على الله: إحسان الظن به سبحانه، وانتظار الفرج، وفعل الأسباب، وأعظم أنواع التوكل: التوكل على الله في جلب الهداية ونشر الدين، وثبات الإيمان.
فتوكل على الله أيها المؤمن في أن يعينك على الصيام، وتوكل عليه في أن يحفظ
صيامك من المعاصي والآثام، وتوكَّلْ عليه في أن يقبل صيامك وتؤجر عليه،
وتوكل عليه في أن يهيئ لك من الطاعات في شهر رمضان ما يرضي ربك عنك، وتوكل
على الله في جميع شأنك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد