+ بسم الله الرحمن الرحيم "
+
إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَا(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ( "
البسملة تقدم الكلام عليها.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا)
المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2]. وقوله: (زِلْزَالَهَا)
يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل تَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم
تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان
كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل. (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ
أَثْقَالَهَا) المراد بهم: أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من
في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام
ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]. (
وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا) الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان
البشر يقول: ما لها؟ أي شيء لها هذا الزلزال؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال
الله تعالى: (سُكَارَى) [الحج: 2]. فيقول: ما الذي حدث لها وما شأنها؟
لشدة الهول. (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم إذا زلزلت (تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَا) أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته
شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة(194)، فتشهد الأرض
بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل،
وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى
بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن
من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا
مشركين، قال الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ
قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]. لأنهم
إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم
ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود
والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذٍ لا يستطيع أن يبقى على
إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله: (يومئذ
تحدث أخبارها) هو جواب الشرط في قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ
زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ
الإنْسَانُ مَا لَهَا (3). قوله بأن ربك أوحى لها) أي بسبب أن الله أوحى
لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير
إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد
كما قال الله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال: ربِّ
وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة(195). وقال الله تعالى
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ
وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يس: 65]. فالله عز
وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال
يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها) قوله: (يومئذ) يعني يومئذ تزلزل
الأرض زلزالها. (يصدر الناس أشتاتاً) أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه
إلى مأواه، فأهل الجنة ـ جعلنا الله منهم ـ يتجهون إليها، وأهل النار ـ
والعياذ بالله ـ يساقون إليها (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ
وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمَنِ عَهْدًا)[مريم: 85 ـ 87]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على
أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء: 21] .(ليروا أعمالهم) يعني يصدرون
أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن
شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما
بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما
المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا، وفعلت
كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل:
«إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»(196)، وأما الكافر
ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد
(هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]. وقوله: (ليروا أعمالهم) هذا مضاف والمضاف
يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما
غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله
تعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير
حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 64]. ولهذا يجب على
الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب
عليه، وأنه سوف يحاسب عليه. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل
مثقال ذرة شًّرا يره) (من) شرطية تفيد العموم، يعني: أي إنسان يعمل مثقال
ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر (مثقال ذرة) يعني وزن ذرة،
والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة: الذرة
المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها
اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما
يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى:
( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة
فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى
(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره).