استعرض الموضوع التالياذهب الى الأسفلاستعرض الموضوع السابق

الطوفان الأزرق - أحمد عبد السلام البقالي Empty الطوفان الأزرق - أحمد عبد السلام البقالي

chourouk cool
chourouk cool
عضو مميز
عضو مميز
رقم العضوية : 13155
الجنس : انثى عدد المساهمات : 2959 نقاط التميز : 3350 تقييم العضو : 8 التسجيل : 05/09/2012 العمر : 30 الإقامة : سطيف
http://www.guelma24.net
تمت المشاركة الإثنين ديسمبر 10, 2012 8:33 pm
وقف الدكتور هالين يتفرج من خلف الزجاج على العاصفة المتوحشة وهي تفترس مطار كيندي الدولي بنيويورك. إلى جانبه كان يقف زميله الياباني ورفيقه في السفر، الدكتور ناتاكا، يحملق في ظلام الليلة الغاضبة في عصبية لا يكاد يخفيها وجهه الشرقي الجامد ونظرته الباردة.‏

وشعر الدكتور هالين، دون أن يدري لماذا، بخوف من نوع غريب ينتقل إليه من زميله الياباني.ولمع البرق على وجه ناكاتا النحاسي فلاحظ هالين ارتعاش عصب رقيق تحت شفته السفلى، وآخر تحت عينه اليسرى.‏

وبعد الصمت الذي أعقب انفجارات الرعد المتداركة سمع صوت المطر المتهاطل على أرضية المطار.‏

وأفاق الدكتور هالين من غيبوبته على صوت الأبواق وهي تعلن رقم رحلته الوشيكة القيام، وتطلب من المسافرين الاتجاه إلى بوابة الإقلاع.وانحنى الرجلان على حقيبتيهما، وانضما إلى الصف في صمت. ولاحظ الدكتور هالين باستغراب عابر انفراج أسارير زميله الياباني، فعزا انقباضه الأول إلى طول الانتظار، وليس إلى الخوف من القيام في العاصفة، كما تصور في البداية.وباستغراب عابر كذلك، فكر، وهو يعقد حزام المقعد، في سبب قيام الطائرة في هذا الجو العاصف، ولكنه، تصور أن تكون هناك علامة انفراج قريب في حالة الطقس..‏

ووقفت النفاثة العملاقة وحيدة، على غير العادة، على رأس مدرج المطار الدائم الازدحام، تنتظر الإذن لها بالقيام.وبعد انتظار لانهائي أقلعت بشحنتها البشرية، تاركة الأرض نحو سماء كالحة مُكفهرة.‏

وساد صمت عصيب داخل الطائرة وهي تصارع الطبيعة الغاضبة، فتهتز وتهوى، وتنطفىء الأنوار بداخلها ثم تعود إلى الاشتعال.‏

وأمسك الدكتور هالن بذراعي كرسيه بيد مبتلة، وهو ينظر من النافذة، محاولاً أن يرى شيئاً يستأنس به. كان الظلام خاثراً لا تخترقه إلا ومضات البرق الوهاج التي كانت تكشف عن خيوط الوابل الهاطل الذي كان يُسمع وقعه شديداً على الطائرة.‏

وقصف الرعد فهز كيان المركبة الضخمة، وانطفأت أنوارها ثم عادت..ومرت ستون دقيقة بثوانيها في ذلك الطقس المتوحش، وركاب الطائرة وحتى مضيفاتها مسمرون إلى مقاعدهم، شاحبي الوجوه ينتظرون الضربة القاضية..وأخيراً وجدت الطائرة مخرجاً من خلال فجوة واسعة في الغيوم، فانطلقت نحو سماء زرقاء تتلألأ بالنجوم بعيداً عن غضب العاصفة.‏

ولأول مرة سمع صوت الربان في بوق الطائرة، يرحب بالمسافرين بصوت ناعم مسترخٍ:‏

سيداتي وسادتي، مرحباً بكم على متن طائرتنا. لابد أنكم لاحظتم أننا كنا نصارع عاصفة هوجاء طوال الستين دقيقة الفارطة. وبفضل أجهزتنا الحديثة استطعنا تفادي نقط الخطر فيها. وقد أصبحت العاصفة وراءنا، وهناك أحب أن أراها."‏

ثم دخل في تفاصيل الرحلة.‏

وتنهد الدكتور هالين، ونظر إلى رفيقه الدكتور ناكاتا مبتسماً، فابتسم هذا بدوره.‏

وتحرَّكتْ المضيفات، وقد علا وجوههن بشر بعد ذُعر، وتوردُّ بعد اصفرار.‏

ووقفت إحداهن تسوي قبعتها الأنيقة على شعرها الحريري، وتسأل زميلاتها:‏

- هل تعرفن من معنا على متن الطائرة؟‏

- من؟‏

- لا أقل من الدكتور هالين، إيريك هالين.‏

وسألت إحداهن:‏

- ومن هو الدكتور هالين؟‏

فأجابتها أخرى:‏

- خبير هيأة الأمم المتحدة في مكافحة الإشعاع الذري.‏

وعلقت الأولى:‏

- أنفس دماغ في العالم اليوم!‏

وسألت أخرى:‏

- هل هو متزوج؟‏

فحملت الأولى صينيتها، وأسرعت نحو الدرجة الأولى قائلة:‏

- أنا أسبقكن إلى لقائه!‏

وانحنت بالصينية، ونظرت إلى الدكتور هالين وهو يلتقط الكأس، فاتسعت عيناها السماويتان وفتحت فمها في دهشة سعيدة مصنوعة:‏

- دكتور هالين؟‏

- نعم.‏

- أنا سعيدة بلقائك. سمعت وقرأت عنكم كثيراً في صحافتنا السويدية.‏

- شكراً على اهتمامك. لم أكن أعتقد أن الحسان يتتبعن أحوال الشيوخ مثلى.‏

وضحك هو ورفيقه. فقالت مستنكرة:‏

- ماذا تقول؟ أنت ما تزال في ريعان الشباب.‏

وتدخل الدكتور ناكاتا مادا كأسه للمضيفة:‏

- سأشرب نخب ذلك!‏

وضحك الثلاثة.‏

وبعد العشاء والسينما، دفع الدكتور هالين كرسيه إلى الوراء. فجاءته المضيفة بوسادة وغطاء نشرته على ركبتيه، وأطفأت النور هامسة:‏

- ليلة سعيدة!‏

ونام الدكتور هالين ليستيقظ في مكان لم يكن يحلم به...‏

-2-‏

وقف الدكتور على نادر، العالم الأنثروبولوجي الشاب، وسط حلقة من المعجبين والمعجبات بنظرياته المستقبلية الجريئة، يستحم في ثنائهم السخي على كتابه الجديد (عصر الإنسان)، ويرد على أسئلتهم، عقب حفل التكريم الذي أقامته له الجمعية الملكية البريطانية للأنثروبولوجيا في مركزها بلندن. وإلى جانبه وقفت كاتبته ومساعدته وتلميذته الباكستانية الشابة، تاج محيي الدين، لابسة ساريا أخضر فاتحاً، زاد وجهها الخمري الجميل نضرة وجمالاً..‏

والتفت الدكتور علي نادر إلى خادم الجمعية العجوز الذي انحنى يهمس في أذنه:‏

- دكتور نادر، أنتم مطلوبون للهاتف، أخشى أن المكالمة مستعجلة.‏

واعتذر الدكتور نادر لمن حوله بابتسامته المضيئة، وخرج من الحلقة خلف الخادم العجوز الذي قاده إلى مكتب المدير، وناوله السماعة بيد في قفاز أبيض. وقعد الدكتور نادر على طرف المكتب:‏

- آلو.‏

- الدكتور على نادر؟‏

- نعم، من؟ فيليب؟‏

- اسمع يا علي، ليس لي وقت لتهنئتك الآن. هناك خبر سيظهر على التلفزيون في ظرف دقيقة أو اثنتين. هل هناك جهاز قريب منك؟‏

ونظر الدكتور نادر حواليه، فرأى جهازاً بركن المكتب:‏

- نعم هنا واحد.‏

- أشعله وضعه على قناة الـ"بي. بي. سي"، المحطة الأولى. إلى اللقاء.‏

وعلق، فنظر نادر إلى السماعة باستغراب، ثم أرجعها إلى محلها، وخَطَا نحو الجهاز، فأشعله ووقف يذرع الغرفة، وينتظر ظهور الصورة.‏

وسمع قرعاً خفيفاً على الباب فقال:‏

- ادخل.‏

وانفتح الباب، وظهر من خلفه وجه تاج وعليه سؤال معلق. فأشار لها هو أن تدخل، وأمسك بيدها:‏

- آسف يا عزيزتي إذا تأخرت عنك. كلمني فيليب، وقال لي إن خبرا يهمني سيظهر على التلفزيون الآن.‏

وبرقت عين تاج فتساءل نادر بنظرة قلقة، فقالت:‏

- لابد أن يكون كتابك! حلقة مناقشة حوله. أليس ذلك عظيماً؟ هل يمكننا البقاء هنا لمشاهدة البرنامج بأسره؟‏

وجاء صوت المذيع قبل ظهور صورته وهو يقول:‏

"نقاطع هذا البرنامج لنأتيكم بهذا الخبر المستعجل:".‏

وظهر وجه مذيع آخر ينظر إلى ورقة في يده، ثم ينزع النظارة، ويرفع وجهه ليواجه الكاميرا وبدأ:‏

"خبر في منتهى الغرابة، وصلنا من الدار البيضاء بالمغرب، مفاده أن الدكتور هالين الخبير السويدي المعروف في مكافحة الإشعاع الذري، والحائز على جائزة نوبل في أبحاثه في ذلك الميدان، اختفى من طائرة عابرة المحيط وهي في الجو- أعيد: في الجو بين نيويورك والرباط".‏

وأعاد النظارة إلى عينيه، وتناول الورقة أمامه، فقلبها بين يديه، ثم أضاف:‏

"سنوافيكم بما يجد في الموضوع في حينه. ما هو تاريخ اليوم؟ أرجو ألا يكون فاتح ابريل!".‏

واختفى المذيع، وعاد برنامج "شارع التتويج"، ولكن الدكتور على نادر بقي يحملق في الشاشة مأخوذا بالخبر، مخدر الإحساس، ساهيا عن وجود تاج معه في نفس الغرفة، وبقيت هي صامتة محترمة ذهوله حتى لا تحرجه.‏

ورن جرس الهاتف فأيقظه من شردوه. كان رنيناً حاداً بالنسبة للصمت المفاجىء الذي عاد إلى المبنى بعد خروج الجميع.‏

والتقط الدكتور نادر السماعة، قبل أن يرن الجهاز مرة ثالثة. وفي الطرف الآخر كان فيليب الذي سأل بدون مقدمة:‏

- ما رأيك؟‏

- لا أدري. ما رأيك أنت؟‏

- هل أنت ذاهب لبيتك الآن؟‏

- نعم، لماذا؟‏

- في الساعة الحادية عشرة سيصلنا خبر مفصل، وقد يمكن أن تصلنا صورة المؤتمر الصحافي الذي ستدعو إليه شركة الطيران في الرباط. وقد تُلقي بعض الأضواء على هذا الغموض الغريب.‏

- لابد أنه غلط. فلا يختفي المسافرون من الطائرات في عنان السماوات...ونظر الدكتور على نادر إلى ساعته، ثم ودع فيليب، ووضع السماعة وهو يقول، وكأنه يحدث نفسه:‏

- لم يبق إلا نصف ساعة للأخبار.‏

وظهر على باب المكتب شبح الخادم العجوز في حلته الرسمية، كأنه قطعة من أثاث المبنى القديم، ورفع الدكتور نادر عينيه متسائلاً، فقال الخادم:‏

- سيدي، إذ كنتم في حاجة إلى سيارة أجرة فهناك واحدة بالباب.‏

- نعم. نحتاج إلى سيارة. شكراً.‏

وأمسك الخادم بالباب، فخرجت تاج وتبعها الدكتور نادر، والخادم خلفهما يقول:‏

- أخذت حرية المجيء بمعطفيكما إلى الداخل حتى لا تتعبا في العودة مرة أخرى إلى قاعات المآدب.‏

- شكراً لك.‏

ووضع الدكتور على نادر معطف تاج على كتفيها، وألبسه الخادم معطفه وفتح لهما الباب على شارع مبتل بمطر خفيف تعكس أرضه أضواء الشارع واللافتات التجارية الملونة. وأعطى الدكتور نادر العنوان للسائق:‏

- 48 كارلايل سكوير، من فضلك.‏

وفتح الباب لتاج ودخل السيارة السوداء الفارغة وقعد إلى جانبها ملقياً برأسه إلى الخلف.‏

وجاء صوت السائق من خلف الزجاج الفاصل:‏

-حظنا حسن هذه الساعة. لم يبق على المسارح والسينماهات إلا دقائق لتخرج جمهورها، فيكثر المرور والازدحام.‏

وأخذ يتكلم عن مطاعم لندن وجوها، والدكتور نادر وتاج ينتظران أن يكف عن الكلام في صمت، وصبر السيارة منطلقة في الشوارع الملتوية تضيق مرة وتتسع أخرى، والمارة بمظلاتهم يملأون الأرصفة وواجهات الدكاكين المضاءة، والبنات بديولهن القصيرة وأحذيتهن العالية السيقان وجوارهن الملونة ووجوههن المصبوغة وأهدابهن الصناعية، تعطي المدينة مظهراً حالماً غير واقعي، كأنه في صفحات كتاب ملون.‏

وعادت ذاكرة الدكتور نادر به في ومضة خاطفة إلى بلدته الصغيرة على البحر الأبيض. فاستعرض في خياله الشوارع القصيرة الجدران، المبلطة بالحصى الأبيض، والبيوت المربعة الأوباب بنقاراتها المستديرة أو المنحوتة في شكل يد يحمل كرة حديد والحيطان البيضاء المائلة إلى الزرقة، والنساء والرجال الملفوفين في الأصواف ناعسي العيون يتحركون كظلال الأشجار على الأسوار القديمة.‏

وتحركت السيارة بعد وقفة طويلة عند ضوء أحمر، فأفاق من شروده، واغتنم فجوة سكوت السائق، فدفع اللوح الزجاجي الفاصل بينهما، وعاد يتكىء ويبحث في ذهنه عن موضوع حديث مع تاج. وأخيراً تذكر:‏

- كدت أنسى.‏

- ماذا؟‏

- رسالة والدك.‏

- هل تسلمت منه رسالة أنت الآخر؟‏

- وجدتها في بريدي هذا الصباح. بها دعوة حارة لي لزيارة الجمعية الانثروبولوجية بفيجى والمحاضرة بها عن نظريتي الجديدة، ومعها تذكرة طائرة! لابد أن والدك واثق من قوة إقناعك. فمن أدراه أنني سأقبل الدعوة؟‏

- أؤكد لك أن تلك طريقة والدي في العمل. إذا كانت له رغبة في شيء دفع ثمنه في الحال حتى يبدد الشك!‏

- أنا متأكد أنك السبب الأول في هذه الدعوة. قال لي في رسالته إنه قرأ أغلب فصول الكتاب، فمن أرسله إليه؟ الكتاب لم يكمل توزيعه حتى في مدينة لندن.‏

- أعترف بأنني بعثت له بنسخة منه. ولكنني أقسم صادقة أنني لم أحاول أن أؤثر فيه في مسألة دعوتك. وإن كنت أرحب بالفكرة، فبعد الإرهاق والإجهاد الذي أصابك أثناء إعداد الكتاب، لابد أن عطلة على شواطىء "فيجي" ستريحك تماماً.‏

- أنت تضربين على أوتار ضعفي. تعرفين أنني مرهق وأحتاج إلى الراحة، وقد سمعتني مراراً ألْهج بالفرار إلى جزيرة، فاقترحت "فيجي". وتعرفين أنني أكره شتاء لندن الحزين، فاخترت نصف الكرة الصيفي، "إن كيدهن عظيم!".‏

وضحكت تاج، فانفرجت شفتاها عن مبسم كالأقحوانة، وقالت:‏

- تعطيني من الذكاء والمكر أكثر مما أستحق..ونظر إليها في غبش السيارة المتحركة، فخالجه شعور بأنهما يعيشان معاً، يعبران نهر الحياة في طوف صغير سعيد يشع دفئها حواليه... وتنهد. آه لو كانت له! لو كان قادراً أن يخطبها من نفسها! أن يضمها إلى صدره، ويهمس في أذنيها: "هل تتزوجينني؟".‏

وأدرك أنه أحرجها بنظرته وتنهده، فأسبلت عينيها حتى تتجنب عينيه، وأشاح هو بوجهه عنها لينظر عبر النافذة.‏

كانت السيارة دخلت "سلون ستريت"، وهي الآن تدور حول "سلون سكوير".‏

وتنبه لصوتها وهي تسأله.‏

- هل أعد تعليقك موافقة على الدعوة؟‏

-لا تربطيني الآن. أعطيني مهلة للتفكير.‏

- آسفة. لم أكن أريد دفعك.‏

- لا تعتذري يا عزيزتي، فأنا، كما قال أوسكار وايلد: "يمكنني مقاومة كل شيء إلا الإغراء!".‏

- لا ألومك إذا لم ترد مغادرة لندن في هذه الأيام.‏

- لماذا؟‏

- لا يمكنك أن تترك مقر عرشك الآن! علماء لندن والعالم الأنثروبولوجي كلهم يرفعونك فوق أكتافهم ويهتفون باسمك. فلا يمكنك أن تترك كل هذا المجد وتهرب إلى جزيرة واق الواق...ونظر الدكتور نادر إليها وعلى وجهه ابتسامة مفاجأة:‏

- ماذا؟ إنك تفاجئينني ببعض تعاليقك الساخرة، لم أكن أتوقع أن أكون ضحية لها بهذه السرعة! تذكري أنك ما تزالين تلميذتي. فلا تنسي مكانك!‏

- ها هو الرجل الشرقي يتكلم!‏

- أتحداك أن تجدي أحسن!‏

ودارت كلماته الأخيرة برأسه وأحس أن وجهه يحمر... وارتاح حين أدرك أن الظلام يخفي حَرَجَه.ودارت السيارة نحو اليمين داخلة "كارلايل سكوير"، فاعتدل في جلسته، وبدأ ينظر إلى العداد، ويبحث في جيوبه عن النقود.‏

- الباب الرابع إلى اليسار.‏

ووقفت السيارة فخرج الدكتور نادر، وساعد تاج على الخروج، وهي ترفع ثوبها الطويل.وفي البيت تناول معطفها وعلقه خلف الباب، وخلع معطفه هو الآخر وعلقه، وأشعل الأنوار كلها داخل غرفة الجلوس. ونظر إلى ساعته وقال:‏

- لم تبق إلا خمس دقائق للأخبار.‏

وعلا صوت التلفزيون فغطى على الحديث. وخرج الدكتور نادر من بيت النوم بقميص قصير الأكمام، وسروال كاكي مكوى بعناية، وجلس على الأريكة مقابلاً جهاز التلفزيون.وجاءت تاج بصينية صغيرة عليها فنجانان يتصاعد منهما البخار، فوضعت واحداً أمامه وتناولت الآخر، وجلست بجانبه قبالة الشاشة المضيئة.‏

وبدأت موسيقى الأخبار فاعتدل الاثنان في مقعدهما، وعادت علامة الجد إلى وجه الدكتور نادر الذي كان يتناسى خبر اختطاف صديقه الدكتور هالن، ويُمنِّي نفسه بأن المسألة مجرد خطا من الشركة. وأن العالم السويدي لابد أن يظهر في القريب. وحتى إذا لم يظهر، فليس هناك خطر حقيقي على حياته. قد يكون على حريته إذا اختطفته دولة ما لاستعمال مواهبه العلمية. فهو أثمن من أن يجازف أي معسكر بقتله. وبهذه الفلسفة كان يعزي نفسه عن فقدان صدق عزيز.‏

وظهر وجه المذيع على الشاشة الصغيرة وعلى وجهه ابتسامة معلقة، وبدأ:‏

"الساعة الآن الحادية عشرة، وإليكم الأخبار، يقدمها "غوردن هانيكوم".‏

"ما تزال قصة اختطاف الدكتور هالن، الخبير السويدي في مقاومة الإشعاع، ملفوفة في الغموض، اختفى الدكتور هالن من طائرة "بانام" 707 عابرة المحيط وهو في الجو. لم يعثر له على أثر حتى الآن. وإليكم مراسلنا بالدار البيضاء، روبيرت ماكنزي".‏

وظهر وجه مذيع شاب واقف أمام مبنى البانام، وفي يده ميكروفون، وخلفه عدد من الأطفال والمارة. قال:‏

"المبنى الذي ترونه خلفي هو فرع شركة البانام الجوية بالدار البيضاء، بالمغرب. وسوف ننتقل بكم إلى الداخل لحضور المؤتمر الصحافي الذي دعت إليه الشركة لإعلان خبر اختفاء الدكتور هالن في عرض الفضاء عبر المحيط. اجتذب المؤتمر عدداً كبيراً من رجال الصحافة، ولاشك من رجال البوليس الدولي وبعض عملاء المعسكرين المتنافسين، إلى مدينة الدار البيضاء، لالتقاط الأخبار وكشف أستار الغموض أو تغطية ما يعرفون عن هذا الحادث الأول من نوعه في تاريخ الاختطافات والاختفاءات الخيالية".‏

ووضع المذيع يده على أذنه حيث يتدلى سلك من سماعة صغيرة. واستمع قليلاً ثم قال:‏

"زميلي يناديني من داخل المبنى ليخبرني بأن المؤتمر قرب أن يبدأ".‏

وانتقلت الكاميرا إلى وسط قاعة كبيرة احتشد فيها جمهور من الصحافيين يلغطون بجميع اللغات، ويشرئبون نحو مسرح عليه مائدة طويلة حولها كراسي وأكواب ماء ومكروفونات صغيرة. وظهر وجه المذيع وهو يتكلم بصوت ناعم:‏

"قريباً سيظهر على هذا المسرح قبطان الطائرة وملاحه والمضيفات الأربع للإجابة على أسئلة الصحافيين. ومما يبدو أن ظهور هؤلاء للصحافيين لن يزيد المسألة إلا غموضاً. ومعلوم أن".‏

وقاطعه صوت آخر يعلن:‏

"أيتها السيدات، أيها السادة، أقدم لكم ربان طائرتنا ومضيفاتها للإجابة عن أسئلتكم في موضوع اختفاء الدكتور هالن أثناء هذه الرحلة".‏

ولمعت أضواء المصورين على الوجوه والحلل الزرقاء الأنيقة، وهم يأخذون أماكنهم حول الطاولة في مواجهة الجمهور. وبدأ الأسئلة صحفي أمريكي بلهجة نيويوركية واضحة.- من اكتشف اختفاء الدكتور هالن من الطائرة، ومتى؟ورفعت مضيفة يدها:‏

- أنا. كان ذلك حوالي الرابعة صباحاً.‏

- هل أنت متأكدة من أنه كان على الطائرة، حين غادرتم نيويورك؟‏

- كل التأكد!‏

وسأل صحفي سويسري.‏

- كيف؟‏

- أعرف الدكتور هالن. وزيادة على ذلك فقد كان يحمل تذكرة عليها الحروف (ش.ب)-شخصية بارزة- فكان عليّ أن أراقب حركاته إذا احتاج إلى شيء. وقد تحدثنا مرة باللغة السويدية، فأنا سويدية، والدكتور هالن شهير في الأوساط العلمية ببلادي.‏

- كيف اكتشفت اختفاءه،؟‏

- كنا قد انتهينا من توزيع العشاء على المسافرين، وطلب الدكتور هالن الغطاء لينام قليلاً، وجئته أنا بالغطاء والوسادة، ودفعت كرسيه إلى الوراء، وأسدلت ستار النافذة إلى جانبه لأنها كانت تواجه الشرق. والشمس تشرق علينا في ذلك الارتفاع في الواحدة بعد منتصف الليل بتوقيت نيويورك. وأطفأتُ الأنوار، وذهبت للكراسي الخلفية حيث قعدت مع زميلاتي. وحوالي الرابعة سمعت جرساً، ونظرت إلى رقم الكرسي، فإذا به في الدرجة الأولى، وذهبت لأجيب الطلب فلاحظت فراغ كرسي الدكتور هالن. ولم ألق بالا لذلك، إذ ظننت أنه ذهب للمرحاض.‏

- هل رأيته أو إحدى زميلاتك يغادر مكانه؟‏

- لا، عهدي به نائم منذ منتصف الليل، حين انطفأت جميع الأضواء الرئيسية. على كل حال، عدت من الدرجة الأولى لآتي بكوب ماء.‏

وسأل صحفي فرنسي:‏

- هل كان الدكتور هالن مسافراً بالدرجة الأولى؟‏

- لا، قال لي بنفسه إنه يكره الدرجة الأولى، لأنه لا ينسجم مع ركابها!‏

وسرت قهقهة بين جمهور الصحفيين، واستأنفت المضيفة:‏

- ولكنه كان يحمل تذكرة الدرجة الأولى، وحين عدت من هناك كان الكرسي ما يزال فارغاً. ورأيت امرأة تخرج من أحد المراحيض الأمامية وطفلاً من الآخر. وبقى المرحاضان الخلفيان مقفلين. وعدت إلى الجلوس مع زميلاتي، دون أن يكون بالي مشغولاً بشيء. ولاحظت ببطء ثقيل علامة "فارغ" على باب مرحاض خلفي وقلت في نفسي لعل الدكتور هالن دخل المرحاض ونسي أن يقفله وراءه.‏

وفي هذه اللحظة بالذات قامت زميلتي "إيلين" ففتحته، وقبل أن أناديها لأنبهها كانت قد دخلت، وأقفلت خلفها الباب.‏

وهنا رن جرس حاد في مخى.. وقمت بسرعة إلى المرحاض الآخر. وكانت العلامة على قفله تقول "فارغ" فدفعته ونظرت بداخله. لا أحد! وأصبت بقشعريرة..وبدأ ذهني يعمل بسرعة العداد الإلكتروني. وانثالت عليه ملايين الأسئلة:‏

"أين ذهب الرجل؟ هل دخل قمرة الربان!".‏

وذهبت بسرعة أقطع الممر الطويل كأنه ألف ميل، لعلي أجد الجواب عن سؤالي. وفتحت باب القمرة على الطيار والملاح، وهما يحتسيان القهوة. ونظر الملاح إلى وجهي فرأى علامة الذعر. فسأل ممازحاً:‏

-ماذا؟ هل يطاردك شبح؟‏

- قد تكون على حق!‏

ثم أقفلت الباب ووليته ظهري، وأنا أحاول السيطرة على أعصابي. وقلت لنفسي:‏

"مهلاً مهلاً! لا داعي إلى فقدان أعصابك! لا يمكن أن يختفي إنسان على متن طائرة سابحة في جوف الليل. سوف أبرد أعصابي، وأمسح بعيني جميع المسافرين مرة أخرى. وبدأت بالدرجة الأولى. لم يكن هناك إلا أربعة ركاب. وخرجت منها إلى الثانية حيث بدأت بالصفوف الأولى. واخترقت الممر، أقف عند كل صف حتى أتأكد من هوية كل فرد، إلى أن وصلت النهاية، فهويت في مكاني واضعة يدي على وجهي مما أقلق زميلاتي، فانهلن عليَّ بالأسئلة:‏

"ماذا أصابك؟ هل أنت مريضة؟‏

وكشفت عن وجهي لأقول لهن: "لاشيء. لعلني أحلم أو أومن بالأشباح. هل نمت؟‏

هل أغمضت عيني ورحت في إغفاءة ما؟"‏

فقلن: -"لا، ألا تذكرين أننا تحدثا طول الوقت بعد نهاية العشاء؟ لماذا؟"‏

فقلت: "أجبنني عن هذا السؤال، هل الدكتور هالن معنا على هذه الطائرة؟".‏

فقالت: إيلين باستغراب: "طبعاً معنا! وأنت التي كنت تتحدثين إليه بالسويدية طول فترة العشاء للتتأكدي من أن "ش.ب" تحصل على أحسن خدمة".‏

"فوضعت يدي على وجهي مرة أخرى وقلت لهن:‏

"أرجو أن تبحثن عنه وتُرينني إياه".‏

وتضاحكن. ثم بدأ الشك يخامرهن. فقمن يبحثن عنه في مكانه. وبحثن في المراحيض. والأركان ووراء الملابس المعلقة والبار والمقهى ومدخل مستودع الأمتعة. وحسبنا الركاب بالمقارنة مع لوائحنا، فوجدنا أن الدكتور هالن كان معنا، ولكننا لم نعثر له على أثر. بل اكتشفنا أن رفيقه الشرقي قد اختفى هو الآخر! وعند ذلك اجتمعنا نحن الأربعة فقررنا أن نعلن الخبر للربان".‏

وسأل صحفي آخر موجهاً السؤال للربان:‏

- وماذا كان رد فعلك؟‏

- بالطبع ابتسمت غير مصدق! ولكن من أجل ألاّ أُثير أعصاب البنات، أشرت إلى جان مساعد الملاح، أن يصحبهن في البحث ويعود إلى بالنتيجة. وبعد بعض دقائق عاد "جان" وهو يحرك كتفيه مستغرباً. "البنات على حق! لا أثر للرجل! لقد نزلت إلى قسم الأمتعة. لا أثر للحياة به. وقد وجدته مقفلاً كما كان". وعند ذلك انزعجت وقمت بنفسي تاركاً عجلة القيادة للملاح. وتمشيت مع البنات في الممر حيث أوقفنني على الكرسي الفارغ. وسألتهن هل كان مع الرجل حقيبة يد ماتزال بالطائرة، فبحثت مضيفة أولاً تحت الكرسي، ووقفت لتهمس في أذني: "كانت إلى جانب الدكتور هالن محفظة أوراقه. أذكر أنه كان يصحح بعضها بعد العشاء. ولا أجدها الآن. "كل هذا وأنا أعالج الأمر بابتسامة، يعلم الله ما تحتها من قلق لكي لا يفطن الركاب لما حدث فأغرق تحت وابل أسئلتهم..".‏

وسأل صحفي فرنسي:‏

- "هل توقفتم في الطريق بين نيويورك والرباط" في جزيرة "سنتا مريا" مثلاً؟‏

وأجاب الربان بالنفي.‏

- هل لك تفسير منطقي لاختفاء الدكتور هالن ورفيقه؟‏

- لا. وأنا حائر مثلكم.‏

وسأل صحفي ألماني:‏

- هل من المحتمل أن يكون الدكتور هالن والرجل الشرقي نزلاً بالمظلات؟ وضحك الحاضرون، وابتسم الربان وهو يجيب:‏

- أية محاولة لفتح باب الطائرة على ذلك الارتفاع، ارتفاع خمس وثلاثين ألف قدم، كانت تجعل من جميع ركابها أشلاء متجمدة في الفضاء. وحتى لو أفلحا في مغادرة الطائرة عن طريق باب الأمتعة كان برد الجو القارس الذي يصل إلى الخمسين فهرنهايت تحت الصفر يحيلهما إلى قطعتي جليد في الحال!.‏

وقاطع وجه المذيع المؤتمر وعلى وجهه علامة استفهام. "نعود بكم إلى لندن، وسوف نوافيكم بما يجدَّ في موضوع الاختفاء الخيالي الذي يشغل بال العالم اليوم".‏

وظهر وجه المذيع المركزي يقول:‏

"يظهر أن جيمس بوند عاد إلى فعلاته المدهشة".‏

وانتقل إلى خبر آخر، فقالت تاج:‏

- هل أطفئه؟‏

وحرك الدكتور نادر رأسه موافقاً، وهو يمتص غليونه وينفث الدخان من جانب فمه. وعادت تاج لتجلس بجانبه وهي تقول:‏

- لابد أن هناك تفسيراً سخيفاً لكل هذا الغموض. أنا متأكدة أن الدكتور هالين يشاهد هذا البرنامج ويقهقه في سره قهقهة شيطانية في ركنٍ ما، وهو سعيد للإشهار الذي ناله مجاناً.‏

وأمسك الدكتور نادر بغليونه وقال:‏

- لا يا عزيزتي. هالين ليس من ذلك النوع. فهو يكره الإعلان عن شخصه وعن عمله. رجل متواضع خجول يكره الضوء كما يكره العنف والتطرف. وأعتقد أن اكتشافاته وأبحاثه في مكافحة الإشعاع صادرة عن شعور عميق بالمسؤولية نحو الإنسان وحبه لهذا العالم كما هي، وخوفه أن يضغط مجنون في يوم ما على زر أحمر في واشنطن أو موسكو أو بيكين، ويتحول كل ذلك إلى رماد! لا، لا يمكن أن يكون الدكتور هالين موجوداً في مكان ما حيث يعلم بخبر اختفائه دون أن يهرع إلى أقرب تلفون ليسكت الضجة القائمة حول اسمه!‏

- وماذا تعتقد أن يكون وقع؟‏

- اختطاف. حرب الجاسوسية والمعسكرات المذهبية والتسابق إلى تطوير الأسلحة الكيماوية التي لا تعرف عنها الشعوب شيئاً، يحيطها الكبار بسرية كاملة حتى لا يتسرب الذعر بين الناس. هل تذكرين قضية الفيتنامي الذي أحرق النابالم جلده كله فلم يعد قادراً على النوم أو الجلوس، وعاش واقفاً حتى مات من الألم والإعياء السهر؟!‏

ووضعت تاج يدها على وجهها في ألم واشمئزاز:‏

- أرجوك!‏

- آسف يا عزيزتي! نسيت أنكِ شرقية ذات قلب رهيف.‏

- تذكُّر الألم يضاعف مفعوله!‏

ونظرت إلى ساعتها وقالت:‏

- يا إلهي! الحادية عشرة والنصف!‏

- هل تأخرت عن ميعاد؟‏

- لا، بل عليَّ أن أعِدَّ بعض المذكرات قبل أن أنام. وكنت أنوي العودة في الحادية عشرة.‏

- هل أنادي لك سيارة أجرة؟‏

قالها الدكتور نادر وهو ينهض لينظر من النافذة، ثم قال:‏

- توقف المطر.‏

- في تلك الحال أفضِّلُ أن أمشي قليلاً إلى قطار النفق.‏

- إذن سأرافقك.‏

وعلى باب محطة النفق وقف يودعها، فاستدركت قائلة:‏

-كدت أنسى. ماذا أقول لأبي عن موضوع دعوتك؟ سأكتب له غداً.‏

- دعيني أنام على الفكرة.‏

- كما تريد.‏
التوقــيـــــــــــــــــــــع


لنْ تقّع فِي الحُب مِنْ بَعْدِي لِ سَبَبينْ ؛
أوَلهَا : لِأنكَ عَاشِق فَاشِل
وَ ثَانِيهَا : لنْ تَجد مِثلّي تَتَحَمَلُ حَمَاقَتكْ !

الطوفان الأزرق - أحمد عبد السلام البقالي Empty رد: الطوفان الأزرق - أحمد عبد السلام البقالي

avatar
زائر
زائر
تمت المشاركة الثلاثاء ديسمبر 11, 2012 10:55 pm
يسلمؤؤؤؤاا
على الطرح يالغلا
والله يعطيك العافيه
استعرض الموضوع التاليالرجوع الى أعلى الصفحةاستعرض الموضوع السابق
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى