انشراح الصدر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى اله وصحبه وسلم أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
أيها المسلمون، ان انشراحُ الصدر وسكونُ النفسِ وطُمأنينةُ القلبِ أملُ كل من عاشَ على الغَبراء، وحاجةُ كل ماشٍ في مناكبِها، باحثٍ عن طِيبِ العَيشِ فيها، مُريدٍ حِيازةَ أوفَى حظٍّ من السعادة لنفسه، وإدراكِ أعظمِ نصيبٍ من النجاح.
وإذا كان للناسِ في أسبابِ تحقيقِ انشراحِ الصدر مذاهبُ واتجاهاتٌ شتَّى؛ فإن للصفوةِ المتَّقين أولي الألباب من المعرفةِ الراسخةِ بأسبابِ ذلك وبواعِثِه ما يجعلُ سبيلَهم إليه أقومَ السُّبُل وأهداها وأحراها ببُلوغِ الغايةِ فيه؛ لأنه سبيلٌ مضى عليه وأرشدَ إليه رسولُ الهُدى صلوات الله وسلامه عليه، وهو الحريصُ علينا، الرؤوفُ الرحيمُ بنا، الذي قال في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وأبو داود والنسائي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: «إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلِّمُكم» الحديث، والذي كان صلوات الله وسلامه عليه أشرحَ الخلقِ صدرًا، وأطيبَهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا؛ لِمَا جمَعَ اللهُ له من أسبابِ شرحِ الصدر، مع ما آتاه من النبُوَّة والرسالة عليه أكمل الصلاة وأتم السلام.
إنها -يا عباد الله- أسبابٌ يأتي في الطليعةِ منها الهُدى والتوحيد؛ كما قال سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام: 125]، وقال عز وجل: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]، أي: لا يستوي هو ومن قسَا قلبُه بالبُعد عن الحق والإعراضِ عن الهُدى، كما قال عزَّ اسمُه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122].
إنه نورُ الإيمان الذي يُضيءُ اللهُ به قلوبَ من شاءَ من عباده، فيشرحُ به صدورَهم، وتطيبُ به نفوسُهم، وتنعَمُ به قلوبُهم.
وفي الإنابةِ إلى الله ومحبَّته والإقبالِ عليه تأثيرٌ عجيبٌ في انشراحِ الصدرِ، وكلما كانت المحبةُ أقوى كان انشراحُ الصدرِ وطيبُ النفسِ كذلك، وعلى العكسِ منها الإعراضُ عن الله تعالى والتعلُّق بغيره؛ فإنه من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر؛ لأن من أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به وسُجِنَ في محبَّته.
فهما كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "هما محبَّتان: محبَّةٌ هي جنةُ الدنيا، وسُرورُ النفس، ولذَّة القلبِ، ونعيمُ الروح وغذاؤُها، ودواؤُها؛ بل حياتُها، وقُرَّةُ عينِها، وهي محبَّةُ الله وحده بكل القلبِ، وانجِذابُ قوى المَيْل والإرادة والمحبِّة كلها إليه، ومحبَّةٌ هي عذابُ الروح، وغمُّ النفسِ، وسِجنُ القلبِ، وضيقُ الصدر، وهي سببُ الألم والنَّكَد والعَناءِ، وهي محبَّةُ ما سواه" اهـ.
فليختَرِ اللَّبيبُ العاقلُ لنفسِهِ، وليجتهِد لها، فإنه ساعٍ في خلاصِها، راغبٌ في حِيازةِ الخيرِ لها.
وفي الإحسانِ إلى الخلقِ في كل دُروبِ الإحسان بنفعهِم بكل ما يُمكِنُ نفعُهم به من مالٍ وجاهٍ وتعليمِ علمٍ نافعٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهي عن مُنكَرٍ وصلةٍ وصدقةٍ وغيرها، في ذلك تأثيرٌ عجيبٌ في شرحِ الصدرِ وسرورِ النفسِ.
وقد ضربَ النبي مثلًا لانشراحِ صدر المُتصدِّق وضيقِ صدرِ البخيلِ، فقال في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «مثَلُ البخيلِ والمُتصدِّق كمثَلِ رجلَيْن عليهما جُنَّتان من حديدٍ، إذا همَّ المُتصدِّقُ بصدقةٍ اتَّسَعت عليه وانبَسَطت حتى تُعفِّيَ أثرَه، وإذا همَّ البخيلُ بصدقةٍ تقلَّصَت وانضمَّت يداه إلى تراقِيه وانقبَضَت كلُّ حلقةٍ إلى صاحبتِها، فيجهَدُ أن يُوسِّعَها فلا تتَّسِع».
وإن ذكرَ الله تعالى على كل حالٍ لهُوَ من أقوى أسبابِ انشراحِ الصدر، وقد بيَّن ربُّنا تبارك وتعالى حُسنَ جزاء الذاكرِ له وعِظَم منزلته عنده سبحانه بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152].
ومن ذكَرَ الله تعالى كان أجدرَ الناسِ بكل انشراحِ صدرٍ، كما أن الغفلةَ عن ذكره سببٌ لضيقِ الصدرِ وهمِّه وغمِّه.
وإن أشرفَ الذكرِ وأعظمَه تلاوة كتابِ الله تعالى بتدبُّرٍ يبعَثُ على العملِ؛ فإن التلاوةَ الحَقَّةَ كما قال أهلُ العلم هي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيِه، وائتمامًا به، حيثُما قادَك انقدتَ له؛ فتلاوةُ القرآن تتناولُ لفظَه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مُجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا.
ألا وإن الصلاةَ التي هي عمادُ الدين وخيرُ أعمال العباد كما قال : «استقيمُوا، ولن تُحصُوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاة»الحديث، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ. إن الصلاةَ التي تُقامُ على الوجهِ الكاملِ ظاهرًا وباطِنًا مع جماعة المُسلمين في المساجد مُفرِحةٌ للنفسِ، مُذهِبةٌ للكسل، شارِحةٌ للصدر، مُغذِّيةٌ للرُّوحِ، مُنوِّرةٌ للقلبِ، حافِظةٌ للنِّعمة، دافِعةٌ للنِّقمةِ، وما استُجمِعت مصالحُ الدنيا والآخرة ولا استُدفِعَت شرورُهما بمثل الصلاة. كما قال رحمه الله.
وفي العلمِ المُقتبَس من مشكاةِ النبُوَّة المُنوَّر بأنوار الوحيَيْن فيه من عوامل شرحِ الصدر ما لا مُنتهَى له، ولا حدَّ يحُدُّه.
وفي الإعراضِ عن الفُضولِ -أي: الزائدِ وما لا حاجةَ إليه- من النظر والكلامِ والاستماع والمُخالطة والأكل والنوم باعثٌ قويٌّ لشرحِ الصدر؛ لأن هذه الخمسة مُفسِداتٌ للقلبِ، تُطفِئُ نورَه، وتُطفِئُ عينَ بصيرتِه، وتُثقِلُ سمعَه إن لم تُصِمَّه وتُبكِمه، وتُضعِفُ قواه كلَّها، وتُوهِّي صحَّته، وتُفتِّرُ عزيمتَه، وتُوقِفُ همَّته، وتُنكِّسُه إلى ورائه؛ فهي عائقةٌ له عن نَيْل كماله، قاطعةٌ له عن الوُصولِ إلى ما خُلِق له وجُعِل نعيمُه وسعادتُه، وابتهاجُه ولذَّتُه في الوُصولِ إليه. اهـ.
فاتقوا الله عباد الله، وخُذوا بمناهج الصفوةِ المُتَّقين أُولي الألبابِ، الذين استنُّوا بسُنَّة خيرِ الورَى صلوات الله وسلامه عليه، واقتَفَوا أثرَه، فكانوا أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأنعمَهم قلبًا؛ فما أسعدَ من سلكَ هذا المنهج، ومضَى على هذا الطريقِ.
إن من أسبابِ شرح الصدر التنزُّه عن ذَميمِ الصفاتِ ومقبوحِ الأخلاقِ؛ فإنها من أظهر أسبابِ ضيقِ الصدرِ، فإذا لم يكن للعبدِ سعيٌ لإخراجِ تلك الصفاتِ والبُرء من دَغَلها لم ينتفِع بشرحِ صدره، وكان قلبُه لِمَا غلَبَ عليه منها.
وإن من أقبَح تلك الصفاتِ وأشدِّها نُكْرًا الكِبرَ والعُجبَ والغُرورَ والحسدَ والأَثَرة، وسائر أمراض القلوبِ؛ فإنها تُورِثُ ضيقًا وهمومًا وغمومًا وآلامًا.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا أنه لا سبيلَ إلى انشراحِ الصدرِ وسُرورِ النفسِ وتنعُّمِ القلبِ إلا بالإقبالِ على الله؛ فإنه لا حُزنَ مع الله أبدًا، ولذلك قال تعالى حِكايةً لقول نبيِّه لأبي بكر الصدِّيق : لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]. فمن كان الله معه فما لَه والحُزن؟! وإنما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لمن أعرضَ عن الله فوُكِلَ إلى نفسه وهواه.
والحمد لله رب العالمين
- خالدعضو متقدم
- رقم العضوية : 12507
الجنس : عدد المساهمات : 4200 نقاط التميز : 5413 تقييم العضو : 142 التسجيل : 01/05/2012 العمر : 36 الإقامة : في دارنا
تمت المشاركة الخميس يونيو 14, 2012 9:50 pm
- ملكة الاحساسعضو مميز
- رقم العضوية : 11259
الجنس : عدد المساهمات : 1663 نقاط التميز : 2140 تقييم العضو : 20 التسجيل : 22/12/2011 العمر : 36 الإقامة : الطارف
تمت المشاركة الخميس يونيو 14, 2012 9:58 pm
جزاك الله كل خير اخي خالد على الطرح القيم
فكم هي رائعة مواضيعك
تقبل مروري اخي العزيز
.
.
.
.
فلور
فكم هي رائعة مواضيعك
تقبل مروري اخي العزيز
.
.
.
.
فلور
- خالدعضو متقدم
- رقم العضوية : 12507
الجنس : عدد المساهمات : 4200 نقاط التميز : 5413 تقييم العضو : 142 التسجيل : 01/05/2012 العمر : 36 الإقامة : في دارنا
تمت المشاركة الخميس يونيو 14, 2012 10:00 pm
شكرا لك الاخت الغالية فلور انتي الاروع يفرحني ويسعدني مرورك العطر بمواضيعي تحياتي القلبية لك
- زائرزائر
تمت المشاركة الخميس يونيو 14, 2012 10:46 pm
chokran laka khalido
- زائرزائر
تمت المشاركة الأحد يونيو 17, 2012 4:02 pm
سلمت يداك اخي خالد ع الطرح القيم
جزاك الله خيرا
ويعطيك الف عافية
مودتي لروحك الطيبه
تقبل مروري هنا
جزاك الله خيرا
ويعطيك الف عافية
مودتي لروحك الطيبه
تقبل مروري هنا
- لمسة خيالعضو مميز
- رقم العضوية : 12518
الجنس : عدد المساهمات : 1700 نقاط التميز : 1959 تقييم العضو : 78 التسجيل : 03/05/2012 العمر : 27 الإقامة : سكيكدة وافتخر ليمعجبوش الحال ينتحر ويكتب في قبروا منقهر
تمت المشاركة الأحد يونيو 17, 2012 4:49 pm
شكرا لك
- عبد المهيمنعضو فعال
- الجنس : عدد المساهمات : 476 نقاط التميز : 562 تقييم العضو : 13 التسجيل : 25/12/2011 العمر : 46 الإقامة : في ارض الله
تمت المشاركة الإثنين يونيو 18, 2012 2:13 pm
جزاك الله خيرا ان شاء لله يكون في ميزان حسناتك
ودمت بحفظ الله
ودمت بحفظ الله
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى