المقالة الاولى:هل الادراك محصلة لنشاط الذات او تصور لنظام الاشياء ؟ جدلية
I - طرح المشكلة :يعتبر
الادراك من العمليات العقلية التي يقوم بها الانسان لفهم وتفسير وتأويل
الاحساسات بإعطائها معنى مستمد من تجاربنا وخبراتنا السابقة . وقد وقع
اختلاف حول طبيعة الادراك ؛ بين النزعة العقلية الكلاسيكية التي تزعم ان
عملية الادراك مجرد نشاط ذاتي ، والنظرية الجشطالتية التي تؤكد على صورة او
بنية الموضوع المدرك في هذه العملية ، الامر الذي يدفعنا الى طرح التساؤل
التالي : هل يعود الادراك الى فاعلية الذات المٌدرِكة أم الى طبيعة الموضوع
المدرَك ؟
II– محاولة حل المشكلة :
1- أ – عرض الاطروحة :يرى
انصار النزعة العقلية أمثال الفرنسيان ديكارت و آلان و الفيلسوف الارلندي
باركلي والالماني كانط ، ان الادراك عملية عقلية ذاتية لا دخل للموضوع
المدرك فيها ، حيث ان ادراك الشيئ ذي ابعاد يتم بواسطة احكام عقلية نصدرها
عند تفسير المعطيات الحسية ، لذلك فالادراك نشاط عقلي تساهم فيه عمليات
ووظائق عقلية عليا من تذكر وتخيل وذكاء وذاكرة وكذا دور الخبرة السابقة ...
ومعنى هذا ان انصار النظرية العقلية يميزون تمييزا قاطعا بين الاحساس و
الادراك .
1- ب – الحجة :ويؤكد
ذلك ، ما ذهب اليه ( آلان ) في ادراك المكعب ، فنحن عندما نرى الشكل نحكم
عليه مباشرة بأنه مكعب ، بالرغم اننا لا نرى الا ثلاثة أوجه وتسعة اضلاع ،
في حين ان للمكعب ستة وجوه و اثنى عشرة ضلعا ، لأننا نعلم عن طريق الخبرة
السابقة أننا اذا أدرنــا المكعب فسنرى الاوجه والاضلاع التي لا نراه الآن ،
ونحكم الآن بوجودها ، لذلك فإدراك المكعب لا يخضع لمعطيات الحواس ، بل
لنشاط الذهن واحكامه ، ولولا هذا الحكم العقلي لا يمكننا الوصول الى معرفة
المكعب من مجرد الاحساس .
ويؤكد ( باركلي ) ، أن الاكمه ( الاعمى ) اذا
استعاد بصره بعد عملية جراحية فستبدو له الاشياء لاصقة بعينيه ويخطئ في
تقدير المسافات والابعاد ، لأنه ليس لديه فكرة ذهنية او خبرة مسبقة
بالمسافات والابعاد . وبعد عشرين (20) سنة أكدت اعمال الجرّاح الانجليزي (
شزلندن ) ذلك .
وحالة الاكمه تماثل حالة الصبي في مرحلة
اللاتمايز ، فلا يميز بين يديه والعالم الخارجي ، ويمد يديه لتناول الاشياء
البعيدة ، لأنه يخطئ – ايضا – في تقدير المسافات لانعدام الخبرة السابقة
لديه .
اما ( كانط ) فيؤكد ان العين لا تنقل نتيجة
الاحساس الا بعدين من الابعاد هما الطول والعرض عند رؤية صورة او منظر مثلا
، ورغم ذلك ندرك بعدا ثالثا وهو العمق ادراكا عقليا ، فالعمق كبعد ليس
معطى حسي بل حكم عقلي .
هذا ، وتؤكد الملاحظة البسيطة والتجربة الخاصة ،
اننا نحكم على الاشياء على حقيقتها وليس حسب ما تنقله لنا الحواس ، فندرك
مثلا العصا في بركة ماء مستقيمة رغم ان الاحساس البصري ينقلها لنا منكسرة ،
و يٌبدي لنا الاحساس الشمس وكانها كرة صغيرة و نحكم عليها – برغم ذلك –
انها اكبر من الارض .
كما تتدخل في عملية الادراك جملة من العوامل
المتعلقة بالذات المٌدرِكة ؛ منها عمل التوقع ، حيث ندرك الموضوعات كما
نتوقع ان تكون وحينما يغيب هذا العامل يصعب علينا ادراك الموضوع ، فقد يحدث
مثلا ان نرى انسانا نعرفه لكننا لا ندركه بسهولة ، لأننا لم نتوقع
الالتقاء به . وللاهتمام والرغبة والميل دروا هاما في الادراك ، فالموضوعات
التي نهتم بها ونرغب فيها و نميل اليها يسهل علينا ادراكها اكثر من تلك
البعيدة عن اهتماماتنا ورغباتنا وميولاتنا . كما ان للتعود دورا لا يقل عن
دور العوامل السابقة ، فالعربي مثلا في الغالب يدرك الاشياء من اليمين الى
اليسار لتعوده على الكتابة بهذا الشكل ولتعوده على البدء دائما من اليمين ،
بعكس الاوربي الذي يدرك من اليسار الى اليمين . ثم انه لا يمكن تجاهل
عاملي السن والمستوى الثقافي والتعليمي ، فإدراك الراشد للاشياء يختلف عن
ادراك الصبي لها ، وادراك المتعلم او المثقف يختلف بطبيعة الحال عن ادراك
الجاهل . وفي الاخير يتأثر الادراك بالحالة النفسية الدائمة او المؤقتة ،
فإدراك الشخص المتفاءل لموضوع ما يختلف عن ادراك المتشاءم له .
1- جـ - النقد :ولكن
انصار هذه النظرية يميزون ويفصلون بين الادراك والاحساس ، والحقيقة ان
الادراك كنشاط عقلي يتعذر دون الاحساس بالموضوع اولا . كما انهم يؤكدون على
دور الذات في عملية الادراك ويتجاهلون تجاهلا كليا اهمية العوامل
الموضوعية ، وكأن العالم الخارجي فوضى والذات هي التي تقوم بتنظيمه .
2- أ – عرض نقيض الاطروحة :وخلافا
لما سبق ، يرى انصار علم النفس الجشطالتي من بينهم الالمانيان كوفكا
وكوهلر والفرنسي بول غيوم ، أن ان ادراك الاشياء عملية موضوعية وليس وليد
احكام عقلية تصدرها الذات ، كما انه ليس مجوعة من الاحساسات ، فالعالم
الخارجي منظم وفق عوامل موضوعية وقوانين معينة هي " قوانين الانتظام " .
ومعنى ذلك ان الجشطالت يعطون الاولوية للعوامل الموضوعية في الادراك ولا
فرق عندهم بين الاحساس والادراك .
2- ب – الحجة :وما
يثبت ذلك ، ان الادراك عند الجميع يمر بمراحل ثلاث : ادراك اجمالي ، ادراك
تحليلي للعناصر الجزئية وادراك تركيبي حيث يتم تجميع الاجزاء في وحدة
منتظمة .
وفي هذه العملية ، ندرك الشكل بأكمله ولا ندرك
عناصره الجزئية ، فاذا شاهدنا مثلا الامطار تسقط ، فنحن في هذه المشاهدة لا
نجمع بذهننا الحركات الجزئية للقطرات الصغيرة التي تتألف منها الحركة
الكلية ، بل ان الحركة الكلية هي التي تفرض نفسها علينا .
كما ان كل صيغة مدركة تمثل شكلا على ارضية ،
فالنجوم مثلا تدرك على ارضية هي السماء ، و يتميز الشكل في الغالب بانه
اكثر بروزا ويجذب اليه الانتباه ، أما الارضية فهي اقل ظهورا منه ، واحيانا
تتساوى قوة الشكل مع قوة الارضية دون تدخل الذات التي تبقى تتأرجح بين
الصورتين .
ثم إن الادراك تتحكم فيه جملة من العوامل
الموضوعية التي لا علاقة للذات بها ، حيث اننا ندرك الموضوعات المتشابهة في
اللون او الشكل او الحجم ، لانها تشكل في مجموعها " كلا " موحدا ، من ذلك
مثلا انه يسهل علينا ادراك مجموعة من الجنود او رجال الشرطة لتشابه الـزي ،
اكثر من مجموعة من الرجال في السوق او الملعب .
وايضا يسهل علينا ادراك الموضوعات المتقارية في
الزمان والمكان اكثر من الموضوعات المتباعدة ، حيث ان الموضوعات المتقاربة
تميل الى تجمع بأذهاننا ، فالتلميذ مثلا يسهل عليه فهم وادراك درس ما اذا
كانت عناصره متقاربة في الزمان ، ويحدث العكس اذا ما تباعدت .
و اخيرا ، ندرك الموضوعات وفق صيغتها الفضلى ،
فندرك الموضوعات الناقصة كاملة مع نها ناقصة ، فندرك مثلا الخط المنحني غير
المغلق دائرة ، وندرك الشكل الذي لا يتقاطع فيه ضلعان مثلثا بالرغم انهما
ناقصان . ويتساوى في ذلك الجميع ، مما يعني ان الموضوعات المدرَكة هي التي
تفرض نفسها على الذات المٌدرِكة
2- جـ - النقد :ولكن
الالحاح على اهمية العوامل الموضوعية في الادراك واهمال العوامل الذاتية
لاسيما دور العقل ، يجعل من الشخص المدرك آلة تصوير او مجرد جهاز استقبال
فقط مادامت الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه سواء اراد ذلك او لم يرد ،
مما يجعل منه في النهاية مجرد متلقي سلبي منفعل لا فاعل .
3 – التركيب :ان الادراك من الوظائف الشديدة التعقيد ، وهو العملية التي تساهم فيها جملة من العوامل بعضها يعود الى
نشاط الذات وبعضها الآخر الى بنية الموضوع ، على
اعتبار ان هناك تفاعل حيوي بين الذات والموضوع ، فكل ادراك هو ادراك
لموضوع ، على ان يكون لهذا الموضوع خصائص تساعد على ادراكه .
III – حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان الادراك لا يعود الى فاعلية الذات فقط او الى بنية الموضوع فحسب ،
من حيث انه لا وجود لادراك بدون موضوع ندركه ، على يكون هذا الموضوع منظم
وفق عوامل معينة تسهل من عملية ادراكه وفهمه . لذلك يمكننا القول ان
الادراك يعود الى تظافر جملة من العوامل سواء صدرت هذه العوامل عن الذات او
عن الموضوع .
المقالة الثانية :هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة ؟
طرح المشكلة :لقد
شغلت العلاقة بين اللغة والفكر بال فلاسفة اللغة وعلمائها ؛ فاعتقد البعض
منهم أن هناك تطابق مطلق بينهما ، ولاوجود لأفكارٍ لا تستطيع اللغة التعبير
عنها ، واعتقد آخرون أن هناك انفصال بين اللغة والفكر ، مما يلزم عنه
إمكان تواجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير ، فهل فعلا
يمكن أن يكون هناك فكارا بدون لغة ؟ بمعنى آخر : هل يمكن ان توجد افكار
خارج حدود اللغة ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يرى
بعض المفكرين من أنصار الاتجاه الثنائي ، أنه لا يوجد تطابق وتناسب بين
عالم الافكار وعالم الالفاظ ، فالفكر اسبق من اللغة واوسع منها ، وأن ما
يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما
يعني انه يمكن أن تتواجد افكار خارج إطار اللغة . ويدافع عن هذه الوجهة من
النظر الفلاسفة الحدسانيون أمثال الفرنسي " هنري برغسون " والرمزيون من
الادباء والفنانين ، وكذا الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الباطن والحقائق
الكبرى .
1-ب- الحجة :وما
يؤكد ذلك ، أن الانسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار
تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه
المعاني والافكار. كما قد يفهم أمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه
وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن
ذلك . كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن
كلمات مناسبة لمعنى معين ، أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد
صياغته من جديد ... و في هذا المعنى يقول " برغسون " : « إننا نملك افكارا
اكثر مما نملك اصواتا » .
ثــم إن الالفاظ وُضعت – أصلا – للتعبير عما
تواضع واصطلح عليه الناس بغية التواصل وتبادل المنافع ، فهي إذن لا تعبر
الا على ما تواضع عليه الناس واصطلحوا عليه ( أي مايعرف بالناحية
الاجتماعية للفكر ) ، وتبقى داخل كل إنسان جوانب عميقة خاصة وذاتية من
عواطف ومشاعر لا يستطيع التعبير عنها ، لذلك فاللغة عاجزة عن نقل ما نشعر
به للاخرين ، يقول " فاليري " : « أجمل الافكار ، تلك التي لا نستطيع
التعبير عنها ». ولهذا تـمّ ابتكار وسائل تعبير بديلة عن اللغة كالرسم
والموسيقى ..
وفضلا عن ذلك ، فإن الفكر فيض متصل من المعاني في
تدفق مستمر ، أشبه بالسيل الجارف لا يعرف الانسقام او التجزئة ، وهو نابض
بالحياة والروح أي " ديمومة " ، أما ألفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات
منفصلة ، مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكن للمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة
أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ، لذلك قيل : « الالفاظ
قبور المعاني » .
1-جـ- النقد :لكن
القول ان الفكر اوسع من اللغة واسبق منها ليس الا مجرد افتراض وهمي ، فإذا
كنا ندرك معانٍ ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر اسبقية الفكر على اللغة ،
فإن العكس قد يحدث أيضا حيث نردد الفاظ دون حصول معانٍ تقابلها وهو ما يعرف
في علم النفس بـ " الببغائية " أفلا يعني ذلك أن اللغة اسبق من الفكر ؟
وحتى لو سلمنا – جدلا – بوجود اسبقية الفكر على اللغة فإنها مجرد اسبقية
منطقية لا زمنية ؛ فالانسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ واحد . والواقع
يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن
تصورات لا اسم لها ؟ وكيف تتمايز الافكار فيما بينها لولا اندراجها في
قوالب لغوية ؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة على التعبير عن جميع افكارنا فالعيب
قد لا يكون في اللغة ، بل في مستعملها الذي قد يكون فاقد لثروة لغوية تمكنه
من التعبير عن افكاره .
2-أ- نقيض الاطروحة :يعتقد
معظم فلاسفة اللغة وعلمائها من انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك تناسب بين
الفكر واللغة ، وعليه فعالم الافكار يتطابق مع عالم الالفاظ ، أي ان معاني
الافكارتتطابق مع دلالة الالفاظ ، ولا وجود لأفكار خارج اطار اللغة ، والى
ذلك يذهب الفليسوف الفرنسي " ديكارت " والالماني " هيجل " والمفكر
الانجليزي " هاملتون " وعالم النفس الامريكي " واطسن " ، الذين يؤكدون
جميعهم أن بين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة
النقدية غير القابلة للتجزئة ، باعتبار « ان الفكر لغة صامتة واللغة فكر
ناطق . »
2-ب- الحجة :وما
يثبت ذلك ، أن الملاحظة المتأملة وعلم النفس يؤكدان أن الطفل يولد صفحة
بيضاء خاليا تماما من أي افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه
اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة . وعندما
يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار
لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها ، » فـ« مهما كانت
الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا
على مادة اللغة » . وأنه حسب " هيجل " أي محاولة للتفكير بدون لغة هي
محاولة عديمة الجدوى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجده الاسمى والاصح .
ثـم إننا لا نعرف حصول فكرة جديدة في ذهن صاحبها
الا اذا تميزت عن الافكار السابقة ، ولا يوجد ما يمايزها الا علامة لغوية
منطوقة أو مكتوبة .
كما ان الافكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبها
ولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى ذلك الا الفاظ اللغة التي تدرك ادراكا
حسيا ، فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ،
ولولاها لبقي كامنا عدما ، لذلك قيل : « الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي
مجهولا . »
والنتيجة ان العلاقة بين اللغة والفكر بمثابة
العلاقة بين الروح بالجسد ، الامر الذي جعل " هاملتون " يقول : « إن
الالفاظ حصون المعاني . »
2-جـ- النقد :لكن
ورغم ذلك ، فإنه لا وجود لتطابق مطلق بين الفكر واللغة ، بدليل ان القدرة
على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ ، من ذلك مثلا أنه اذا خاطبنا شخص
بلغة لا نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول ، لكننا نعجز عن مخاطبته
بالمقدار الذي فهمناه ، كما أن الادباء - مثلا - رغم امتلاكهم لثروة لغوية
يعانون من مشكلة في التبليغ .
3- التركيب :في
الحقيقة أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة ذات تاثير متبادل ، فكلاهما
يؤثر في الآخر ويتأثر به ، لكن ورغم ذلك فإنه لا وجود لأفكار لا تستطيع
اللغة أن تعبر عنها ، كما أنه – في نفس الوقت – لا وجود لألفاظ لا تحمل أي
فكرة او معنى .
حل المشكلة :وهكذا
يتضخ انه لا يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ولا لغة دون فكر ، على الاعتبار
ان الانسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره ، وهذا يعني في النهاية أنه
يستحيل تصور وجود افكار خارج اطار اللغة .
المقالة الثالثة:دافع عن الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " الاستقصاء بالوضع
I- طرح المشكلة :تعد
اللغة بمثابة الوعاء الذي يصب فيه الفرد أفكاره ، ليبرزها من حيز الكتمان
الى حيز التصريح . لكن البعض أعتقد ان اللغة تشكل عائقا للفكر ، على اعتبار
أنها عاجزة عنإحتوائه والتعبير عنه ، مما يفترض تبني الاطروحة القائلة ان اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه ، ولكن كيف يمكن الدفاع عن هذه الاطروحة ؟
II- محاولة حل المشكلة :
1- أ - عرض الاطروحة كفكرة :يرى
أنصار الاتجاه الثنائي ، أن هناك انفصال بين الفكر واللغة ، و أنه لا يوجد
تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، حيث ان ما يملكه الفرد من أفكار و
معان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما يعني ان اللغة لا تستطيع
ان تستوعب الفكر او تحتويه ، ومن ثــــمّ فهي عاجزة عن التبليغ او التعبير
عن هذا الفكر .
1- ب - مسلمات الاطروحة : الفكر أسبق من اللغة و أوسع منها ، بحيث ان الانسان يفكر بعقله قبل ان يعبر بلسانه .
1- ج – الحجة :كثيرا
ما يشعر الانسان بسيل من الخواطر والافكار تتزاحم في ذهنه ، لكنه يعجز عن
التعبير عنها ، لانه لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيانها ، وعلى هذا
الاساس كانت اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر ابرزا تاما
وكاملا ، يقول أبو حيان التوحيدي : " ليس في قوة اللغة ان تملك المعاني "
ويقول برغسون : " اننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا "
- اللغة وُضعت اصلا للتعبير عما تواضع او اصطلح
عليه المجتمع بهدف تحقيق التواصل وتبادل المنافع ، وبالتالي فهي لا تعبر
الا على ما تعارف عليه الناس ( أي الناحية الاجتماعية للفكر ) ، ويبقى داخل
كل فرد جوانب عميقة خاصة وذاتية من عواطف ومشاعر لا يستطيع التعبير عنها ،
لذلك كانت اللغة عاجزة عن نقل ما نشعر به للآخرين ، يقول فاليري : أجمل
الافكار ، تلك التي لا نستطيع التعبير عنها .
- إبتكار الانسان لوسائل التعبير بديلة عن اللغة كالرسم و الموسيقى ما يثبت عجز اللغة عن استيعاب الفكر و التعبير عنه .
2- تدعيم الاطروحة بحجج شخصية ( شكلا ومضمونا ) :تثبت
التجربة الذاتية التي يعيشها كل انسان ، أننا كثيرا ما نعجز عن التعبير عن
كل مشاعرنا وخواطرنا وافكارنا ، فنتوقف اثناء الحديث او الكتابة بحثا عن
كلمة مناسبة لفكرة معينة ، أو نكرر القول : " يعجز اللسان عن التعبير " ،
او نلجأ الى الدموع للتعبير عن انفعالاتنا ( كحالات الفرح الشديد ) ، ولو
ذهبنا الى بلد اجنبي لا نتقن لغته ، فإن ذلك يعيق تبليغ افكارنا ، مما يثبت
عدم وجود تناسب بين الفهم والتبليغ .
3- أ – عرض منطق خصوم الاطروحة :يرى
انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك اتصال ووحدة بين الفكر واللغة ، وهما
بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ، فاللغة والفكر شيئا
واحدا ، بحيث لا توجد افكار بدون الفاظ تعبر عنها ، كما انه لا وجود لالفاظ
لا تحمل أي فكرة او معنى . وعليه كانت اللغة فكر ناطق والفكر لغة صامتة ،
على الاعتبار ان الانسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره . كما أثبت علم
النفس ان الطفل يولد صفحة بيضاء خالية من أي افكار و يبدأ في اكتسابها
بموازاة مع تعلمه اللغة . وأخيرا ، فإن العجز التي توصف به اللغة قد لا
يعود الى اللغة في حد ذاتها ، بل الى مستعملها الذي قد يكون فاقدا لثروة
لغوية تمكنه من التعبير عن افكاره .
3- ب – نقد منطقهم :لكن
ورغم ذلك ، فإن الانسان يشعر بعدم مسايرة اللغة للفكر ، فالادباء مثلا رغم
امتلاكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ، وعلى مستوى الواقع
يشعر أغلب الناس بعدم التناسب بين الفكر واللغة .
III- حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان هناك شبه انفصال بين اللغة والفكر ، باعتبار ان الفكر اسبق واوسع
من اللغة ، وان اللغة تقوم بدور سلبي بالنسبة له ، فهي تعيقه وتفقده حيويته
، مما يعني ان الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه "
اطروحة صحيحة .
المقالة الرابعة:يقول هيبوليت : « إذا فكرنا بدون لغة ، فنحن لا نفكر » دافع عن الأطروحة التي يتضمنها القول . الاستفصاء بالوضع
I - طرح المشكل :اذا كانت اللغة اداة للفكر ، بحيث يستحيل ان يتم التفكير بدون لغة ؛ فكيف يمكن اثبات صحة هذه الفكرة ؟
II - محاولة حل المشكل :
1-أ- عرض الموقف كفكرة :ان الفكر لا يمكن ان يكون له وجود دون لغة تعبر عنه ، إذ لا وجودلأفكارلا
يمكن للغة ان تعبر عنا ، حيث أن هناك – حسب انصار الاتجاه الاحادي - تناسب
بين الفكر واللغة ، ومعنى ذلك أن عالم الافكار يتناسب مع عالم الالفاظ ،
أي ان معاني الافكارتتطابق مع دلالة الالفاظ ، فالفكر واللغة وجهان لعملة
واحدة غير قابلة للتجزئة فـ« الفكر لغة صامتة ، واللغة فكر ناطق » .
1- ب- المسلمات و البرهنة: ما
يثبت ذلك ، ما اكده علم نفس الطفل من ان الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا
تماما من اية افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، وعندما
يصل الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار لا
ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها فـ« مهما كانت الافكار
التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا على مادة
اللغة ».
ومن جهة ثانية ، فإن الافكار تبقى عديمة المعنى
اذا بقيت في ذهن صاحبها ولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى ذلك الا بألفاظ
اللغة التي تدرك ادراكاً حسياً ، أي ان اللغة هي التي تخرج الفكر الى
الوجود الفعلي ، ولولاها لبقي كامناً عدماً ، ولذلك قيل : « الكلمة لباس
المعنى ، ولولاها لبقي مجهولاً » .
وعلى هذا الاساس ، فإن العلاقة بين الفكر واللغة
بمثابة العلاقة بين الروح والجسد ، الامر الذي جعل الفيلسوف الانجليزي (
هاملتون ) يقول : « الالفاظ حصون المعاني » .
2- تدعيم الاطروحة بحجج :أن اللغة تقدم للفكر القوالب التي تصاغ فيها المعاني .
- اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح .
- اللغة عماد التفكير وكشف الحقائق .
- اللغة تقدم للفكر تعاريف جاهزة ، وتزود المفكر بصيغ وتعابير معروفة
- اللغة اداة لوصف الاشياء حتى لا تتادخل مع غيرها .
3-أ- عرض منطق الخصوم :يزعم
معظم الفلاسفة الحدسانيون والرمزيون من الادباء والفنانين وكذا الصوفية ،
انه لا يوجد تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، فالفكر اوسع من اللغة
واسبق منها ، ويلزم عن ذلك ان ما يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما
يملكه من الفاظٍ وكلمات ٍ ، مما يعني انه يمكن ان توجد افكار خارج اطار
اللغة .
ويؤكد ذلك ، ان الانسان كثيرا ما يدرك في ذهنه
كما زاخرا من المعاني تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد الا الفاظا
محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني . كما قد يفهم امرا من الامور ويكون عنه
فكرة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما حصل في ذهنه
من افكار عجز عن ذلك . كما ان الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر لا
تسعه الالفاظ ، وهو نابض بالحياة والروح ، وهو " ديمومة " [2] لا تعرف
الانقسام أو التجزئة ، أما الفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات منفصلة ،
مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكن للمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة أن اللغة
تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ، لذلك قيل : « الالفاظ قبور
المعاني » .
3-ب نقد منطقهم :ان
اسبقية الفكر على اللغة مجرد اسبقية منطقية لا زمنية ؛ فالانسان يشعر أنه
يفكر ويتكلم في آنٍ واحد . والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة
؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ؟ وكيف تتمايز الافكار
فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية ؟
III - حل المشكل :وهذا
يعني انه لا يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ، وان الرغبة في التفكير بدون
لغة – كما يقول هيجل – هي محاولة عديمة المعنى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر
وجوده الاسمى والاصح ، مما يؤدي بنا الى القول ان الاطروحة السابقة اطروحة
صحيحة .
المقالة الخامسة :هل الشعور كافٍ لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ جدلية .
I – طرح المشكلة :ان
التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى باهتمام علماء النفس
القدامى والمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من مظاهرها . فاعتقد
البعض منهم ان الشعور هو الاداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة
النفسية ، فهل يمكن التسليم بهذا الرأي ؟ او بمعنى آخر : هل معرفتنا
لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يذهب
انصارعلم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، الى الاعتقاد بأن الشعور هو
أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكلٍ واضح على كل
ما يحدث في ذاته من احوال نفسية او ما يقوم به من افعال ، فالشعور والنفس
مترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من
انفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان "
ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس الا الحياة
الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دو بيران " الذي يؤكد على أنه : « لا توجد
واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » . وهـذا كله يعني ان
الشعور هو اساس الحياة النفسية ، وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، ولا وجود
لما يسمى بـ " اللاشعور " .
1-ب- الحجة :ويعتمد
انصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا
أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ، وان النفس
البشرية لا تنقطع عن التفكير الا اذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في
الذات قابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، اما اللاشعور فهو
غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا
نستطيع ان نقول عن الانسان السّوي انه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر بأخرى
مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .
ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه
وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، فلا
يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن
تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا
للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر
به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني
ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- النقد :ولكن
الملاحظة ليست دليلا على وجود الاشياء ، حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ
من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ،
ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
ثم ان التسليم بأن الشعورهو اساس الحياة النفسية
وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، معناه جعل جزء من السلوك الانساني مبهما
ومجهول الاسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو اساس العلوم .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : بخلاف
ما سبق ، يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ، ان الشعور وحده ليس
كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية
فقط ، لذلك فالانسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – ان يعي ويدرك اسباب
سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الاعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل
النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية لازمة ومشروعة ..
مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليس هـو النفس كلها ،
بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشر على
سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2-ب- الحجة :وما
يؤكد ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل
ما يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من
أسباب المظاهرالسلوكية كالاحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الاقلام ..
فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني
) القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال اثارها على السلوك .
كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الامراض والعقد والاضطرابات النفسية
يمكن علاجها بالرجوع الى الخبرات والاحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز ..
) المكبوتة في اللاشعور.
2جـ - النقد :لا
شك ان مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ،
لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن
المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة
النفسية من الشعور الى اللاشعور ، الامر الذي يجعل الانسان اشبه بالحيوان
مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في اللاشعور.
3- التركيب :وهكذا
يتجلى بوضوح ، أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو
لاشعوري ، أي انها بنية مركبة من الشعور واللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم
الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب
اللاواعي منها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح ، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا
ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه
الا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كافٍ
لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية .
المقالة السادسة:هل الذاكرة ظاهرة اجتماعية أم بيولوجيةالطريقة : جدلية
I - طرح المشكل :اختلفت
الطروحات والتفسيرات فيما يتعلق بطبيعة الذاكرة وحفظ الذكريات . فاعتقد
البعض ان الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية ، وان الذكريات مجرد خبرات مشتركة بين
افراد الجماعة الواحدة . واعتقد آخرون ان الذاكرة مجرد وظيفة مادية من
وظائف الدماغ ؛ الامر الذي يدعونا الى طرح المشكلة التالية : هل الذاكرة
ذات طابع اجتماعي أم مادي بيولوجي ؟
II- محاولةحل المشكل
1-أ- عرض الاطروحة :أنصار النظرية الاجتماعية : اساس الذاكرة هو المجتمع ؛ أي انها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الاولى .
1-ب- الحجة :لأن
– أصل كل ذكرى الادراك الحسي ، والانسان حتى ولو كان منعزلا فانه عندما
يدرك أمرا ويثبته في ذهنه فإنه يعطيه إسما ليميزه عن المدركات السابقة ،
وهو في ذلك يعتمد على اللغة ، واللغة ذات طابع اجتماعي ، لذلك فالذكريات
تحفظ بواسطة اشارات ورموز اللغة ، التي تُكتسب من المجتمع
- ان الفرد لا يعود الى الذاكرة ليسترجع ما فيها
من صور ، الا اذا دفعه الغير الى ذلك أو وجه اليه سؤالا ، فأنت مثلا لا
تتذكر مرحلة الابتدائي او المتوسط الا اذا رأيت زميلا لك شاركك تلك المرحلة
، او اذا وجه اليك سؤالا حولها ، لذلك فإن معظم خبراتنا من طبيعة اجتماعية
، وهي تتعلق بالغير ، ونسبة ماهو فردي فيها ضئيل ، يقول هالفاكس : " إنني
في أغلب الاحيان حينما أتذكر فإن الغير هو الذي يدفعني الى التذكر ... لأن
ذاكرتي تساعد ذاكرته ، كما أن ذاكرته تساعد ذاكرتي " .
ويقول : " ليس هناك ما يدعو للبحث عن موضوع
الذكريات وأين تحفظ إذ أنني أتذكرها من الخارج ... فالزمرة الاجتماعية التي
انتسب إليها هي التي تقدم إلي جميع الوسائل لإعادة بنائها "
- والانسان لكي يتعرف على ذكرياته ويحدد اطارها
الزماني والمكاني ، فإنه في الغالب يلجأ الى احداث اجتماعية ، فيقول مثلا (
حدث ذلك اثناء .... او قبل .... و في المكان ..... وعليه فالذكريات بدون
أطر اجتماعية تبقى صور غير محددة وكأنها تخيلات ، يقول : ب . جاني : " لو
كان الانسان وحيدا لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة إليها " .
1-ج- النقد :لو
كانت الذاكرة ظاهرة اجتماعية بالاساس ، فيلزم عن ذلك أن تكون ذكريات جميع
الافراد المتواجدين داخل المجتمع الواحد متماثلة ، وهذا غير واقع . ثم ان
الفرد حينما يتذكر ، لا يتذكر دائما ماضيه المشترك مع الغير ، فقد يتذكر
حوادث شخصية لا علاقة للغير بها ولم يطلب منه احد تذكرها ( كما هو الحال في
حالات العزلة عندما نتذكر بدافع مؤثر شخصي ) ، مما يعني وجود ذكريات فردية
خالصة .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : النظرية المادية : الذاكرة وظيفة مادية بالدرجة الاولى ، وترتبط بالنشاط العصبي ( الدماغ ) .
2-ب- الحجة :لأن
: - الذاكرة ترتبط بالدماغ ، واصابته في منطقة ما تؤدي الى تلف الذكريات (
من ذلك الفقدان الكلي او الجزئي للذكريات في بعض الحوادث ) .
- بعض امراض الذاكرة لها علاقة بالاضطرابات التي
تصيب الجملة العصبية عموما والدماغ على وجه الخصوص ، فالحبسة او الافازيا (
التي هي من مظاهر فقدان الذاكرة ) سببها اصابة منطقة بروكا في قاعدة
التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ ، أو بسبب نزيف دموي في الفص
الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ، مثال ذلك الفتاة التي أصيبت
برصاصة ادت الى نزيف في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ،
فكانت لا تتعرف على الاشياء الموضوعة في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها ،
فهي تحوم حولها وتصفها دون ان تذكرها بالاسم ، وتتعرف عليها مباشرة بعد
وضعها في يدها اليمنى
يقول تين Taine: " إن الدماغ وعاء يستقبل ويختزن مختلف الذكريات " ، ويقول ريبو : " الذاكرة وظيفة بيولوجية بالماهية "
2-ج- النقد :ان
ما يفند مزاعم انصار النظرية المادية هو ان فقدان الذاكرة لا يعود دائما
الى اسباب عضوية (اصابات في الدماغ) فقد يكون لأسباب نفسية ( صدمات نفسية )
... ثم ان الذاكرة قائمة على عنصر الانتقاء سواء في مرحلة التحصيل
والتثبيت او في مرحلة الاسترجاع ، وهذا الانتقاء لا يمكن تفسيره الا بالميل
والاهتمام والرغبة والوعي والشعور بالموقف الذي يتطلب التذكر .. وهذه كلها
امور نفسية لا مادية .
3- التركيب ( تجاوز الموقفين ) :ومنه
يتبين ان الذاكرة رغم انها تشترط اطر اجتماعية نسترجع فيها صور الذكريات
ونحدد من خلالها اطارها الزماني والمكاني ، بالاضافة الى سلامة الجملة
العصبية والدماغ على وجه التحديد ، الا انها تبقى احوال نفسية خالصة ، إنها
ديمومة نفسية أي روح ، وتتحكم فيها مجموعة من العوامل النفسية كالرغبات
والميول والدوافع والشعور ..
الامثلة : إن قدرة الشاعر على حفظ الشعر اكبر من
قدرة الرياضي . ومقدرة الرياضي في حفظ الأرقام والمسائل الرياضية اكبر من
مقدرة الفيلسوف ... وهكذا , والفرد في حالة القلق والتعب يكون اقل قدرة على
الحفظ , وهذا بالإضافة إلى السمات الشخصية التي تؤثر إيجابا أو سلبا على
القدرة على التعلم والتذكر كعامل السن ومستوى الذكاء والخبرات السابقة ..
III- حل المشكل:وهكذا
يتضح ان الذاكرة ذات طبيعة معقدة ، يتداخل ويتشابك فيها ماهو مادي مع ماهو
اجتماعي مع ماهو نفسي ، بحث لا يمكن ان نهمل او نغلّب فيها عنصرا من هذه
العناصر الثلاث .
ملاحظة :يمكن في التركيب الجمع بين الموقفين ، و ليس من الضروري تجاوزهما
المقالة السابعة:هل يمكن القول ان العقل هو اساس القيمة الاخلاقية ؟ جدلية
I - طرح المشكلة :تعد
مشكلة أساس القيمة الخلقية من أقدم المشكلات في الفلسفة الاخلاقية وأكثرها
إثارة للجدل ؛ إذ تباينت حولها الاراء واختلفت المواقف ، ومن تلك المواقف
الموقف العقلي الذي فسر أساس القيمة الاخلاقية بإرجاعها الى العقل ؛ فهل
فعلا يمكن تأسيس القيم الاخلاقية على العقل وحده ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1- أ – عرض الاطروحة :يرى
البعض ، أن مايميز الانسان – عن الكائنات الاخرى - هو العقل ، لذلك فهو
المقياس الذي نحكم به على الاشياء وعلى سلوكنا وعلى القيم جميعا ، أي أن
أساس الحكم على الافعال و السلوكات وإضفاء طابع اخلاقي عليها هو العقل ،
وعليه أٌعتبر المصدر لكل قيمة خلقية . وقد دافع عن هذا الرأي أفلاطون قديما
والمعتزلة في العصر الاسلامي وكانط في العصر الحديث .
1- ب – الحجة :ويؤكد
ذلك أن ( أفلاطون 428 ق م – 347 ق م ) قسم أفعال الناس تبعا لتقسيم
المجتمع ، فإذا كان المجتمع ينقسم الى ثلاث طبقات هي طبقة الحكماء وطبقة
الجنود وطبقة العبيد ، فإن الافعال – تبعا لذلك – تنقسم الى ثلاثة قوى
تحكمها ثلاث فضائل : القوة العاقلة ( تقابل طبقة الحكماء ) وفضيلتها الحكمة
والقوة الغضبية ( طبقة الجنود ) وفضيلتها الشجاعة والقوة الشهوانية (
العبيد ) وفضيلتها العفة ، والحكمة هي رأس الفضائل لأنها تحد من طغيان
القوتين الغضبية والشهوانية ، ولا يكون الانسان حكيما الا اذا خضعت القوة
الشهوانية والقوة الغضبية للقوة العاقلة .
- و عند المعتزلة ، فالعقل يدرك ما في الافعال من
حسن او قبح ، أي ان بإمكان العقل ادراك قيم الافعال والتمييز فيها بين ما
هو حسن مستحسن وماهو قبيح مستهجن ، وذلك حتى قبل مجيئ الشرع ، لأن الشرع
مجرد مخبر لما يدركه العقل ، بدليل ان العقلاء في الجاهلية كانوا يستحسنون
افعالا كاصدق والعدل والامانة والوفاء ، ويستقبحون أخرى كالكذب والظلم
والخيانة والغدر .. وان الانسان مكلف في كل زمان ومكان ولولا القدرة على
التمييز لسقطت مسؤولية العباد امام التكليف .
- والعقل عند ( كانط 1724 – 1804 ) الوسيلة التي
يميز به الإنسان بين الخير والشر، وهوالمشرّع ُ لمختلف القوانين والقواعد
الأخلاقية التي تتصف بالكلية والشمولية ، معتبراً الإرادة الخيرة القائمة
على اساس الواجب الركيزة الأساسية للفعل لأن الانسان بعقله ينجز نوعين من
الاوامر : أوامر شرطية مقيدة ( مثل : كن صادقا ليحبك الناس ) ، وأوامر
قطعية مطلقة ( مثال : كن صادقا ) ، فالاوامر الاولى ليس لها أي قيمة
اخلاقية حقيقية ، فهي تحقق اخلاق منفعة ، وتتخذ الاخلاق لا كغاية في ذاتها ،
وانما كوسيلة لتحقيق غاية . اما الاوامر الثاني فهي اساس الاخلاق ، لانها
لا تهدف الى تحقيق أي غاية او منفعة ، بل تسعى الى انجاز الواجب الاخلاقي
على انه واجب فقط بصرف النظر عن النتائج التي تحصل منه لذلك يقول : « إن
الفعل الذي يتسم بالخيرية الخلقية فعل نقي خالص , وكأنما هو قد هبط من
السماء »
1- جـ - النقد :لكن
التصور الذي قدمه العقليون لأساس القيمة الاخلاقية تصور بعيد عن الواقع
الانساني ، فالعقل اولا قاصر واحكامه متناقضة ، فما يحكم عليه هذا بأنه خير
يحكم عليه ذاك بأنه شر فاذا كان العقل قسمة مشتركة بين الناس فلماذا تختلف
القيم الاخلاقية بينهم إذن ؟ . كما يهمل هذا التصور الطبيعة البشرية ،
فالانسان ليس ملاكا يتصرف وفق احكام العقل ، بل هو ايضا كائن له مطالب
حيوية يسعى الى اشباعها ، والتي لها تأثير في تصور الفعل . واخيرا أن
الأخلاق عند كانط هي أخلاق متعالية مثالية لا يمكن تجسيدها على ارض الواقع .
2- أ – عرض نقيض الاطروحة :
وخلافا لما سبق ، يرى البعض الآخر أن العقل ليس هو الاساس الوحيد للقيم
الاخلاقية ، باعتبار ان القيمة الخلقية للأفعال الإنسانية متوقفة على
نتائجها وأثارها
- barcaعضو محترف
تمت المشاركة الجمعة ديسمبر 09, 2011 12:10 pm
المقالة الثامنة :هل يمكن اعتبار القوة وسيلة مشروعة لنيل الحقوق ؟ الطريقة : جدلية
طرح المشكلة :
إن العدالة مبدأ أخلاقي سامي ، سعت المجتمعات قديمها وحديثها الى جعلها
واقعا ملموسا بين افرداها ، ولا يمكن ان يحصل ذلك الا اذا أُعطي كل ذي حق
حقه ، والحق هو الشيئ الثابت الذي لا يجوز إنكاره طبيعيا كان او اجتماعيا
او اخلاقيا . الا ان المفكرين والفلاسفة اختلفوا في الوسائل التي تمكننا من
نيل هذه الحقوق ، فاعتقد البعض منهم بأن القوة وسيلة مشروعة لتحقيقها ،
فهل يمكن اعتبار القوة – حقيقة – آداة مشروعة لنيل الحقوق ؟ بمعنى : هل
يمكن تأسيس الحقوق على أساس القوة ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة :
لقد ذهب فريق من الفلاسفة الى اعتبار القوة آداة مشروعة لنيل الحقوق ،
واساس سليما يمكن ان تقوم عليه هذه الحقوق ، ونجد من بين هؤلاء المفكر
الايطالي " ميكيافيلي " الذي يرى أن : « الغاية تبرر الوسيلة » ، حتى وان
كانت الوسيلة لا اخلاقية ، فإذا كان الانتصار ومن ثـمّ نيل الحقوق هو ضالة
الحاكم وهدفه ، فلابد من استعمال القوة اذا كان الامر يستدعي ذلك . اما
الفيلسوف الانجليزي " توماس هوبز " فيرى ان القوي هو الذي يحدد الخير والشر
. بينما الفيلسوف الهولندي " سبينوزا " يرى : « أن كل فرد يملك من الحق
بمقدار ما يملك من القوة » كما أشاد الفيلسوف الالماني " نيتشه " بإرادة
القوة حلى حساب الضعفاء . ونجد – في الاخير –. الفيلسوف الالماني المادي "
كارل ماركس " الذي يذهب الى ان الحقوق ماهي الا مظهرا لقوة الطبقة المسيطرة
اجتماعيا والمهيمنة اقتصاديا . وعليه فالقوة – حسب هؤلاء – آداة مشروعة بل
وضرورية لنيل الحقوق .
1-ب- الحجة :
وما يؤكد مشروعية القوة كوسيلة لاكتساب الحقوق هو تاريخ المجتمعات
الانسانية نفسه ؛ إذ يثبت بأن كثيرا من الحقوق وجدت بفضل استخدام القوة ،
فقيام النزاعات والثورات انتهت في معظمها بتأسيس الكثير من الحقوق ، التي
صارت فيما بعد موضع اعتراف من طرف الجميع ، مثال ذلك أن الكثير من الشعوب
المستعمرة استردت حريتها – كحق طبيعي – بفعل الثورة المسلحة أي القوة
العسكرية .
كما ان المجتمع الدولي حاليا يثبت بأن الدول التي تتمتع بحق النقض ( الفيتو) في مجلس الامن هي الدول القوية اقتصاديا واجتماعيا .
1-جـ- النقد :
لا ننكر ان بعض الحقوق تـمّ نيلها عن طريق القوة ، لكن ذلك لا يدعونا الى
التسليم أنها – أي القوة – وسيلة مشروعة للحصول على جميع الحقوق ، لأن ذلك
يؤدي الى انتشار قانون الغاب فيأكل بموجبه القوي الضعيف ، وبالتالي تفسد
الحياة الاجتماعية وتهدر الكثير من الحقوق .
اضافة الى ذلك فالقوة امر نسبي أي متغير ، فالقوي
اليوم ضعيف غداً والعكس صحيح ، ولأجل ذلك فإن الحق الذي يتأسس على القوة
يزول بزوالها .
2-أ- نقيض الاطروحة :
خلافا للموقف السابق ، يذهب فريق من الفلاسفة الى الاعتقاد أن القوة لا
يمكن ان تعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لنيل الحقوق ، ولا ينبغي بأي حال من
الاحول ان تكون اساسا للحقوق . و الذين يدافعون عن هذه الوجهة من النظر
الفيلسوف الفرنسي " جان جاك روسو " الذي يقول : « إن القوة سلطة مادية ،
ولا أرى بتاتا كيف تنجم الاخلاقية من نتائجها » ، فالقوة بهذا المعنى لا
يمكن ان تصنع الحق ، ولعل هذه ما ذهب اليه الزعيم الهندي " غاندي " عندما
بـيّـن أن استخدام القوة في سبيل نيل الحقوق ماهو سوى مجرد فلسفة مادية لا
اخلاقية ، حيث يقول : « اننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصوم ،
ولكن بمدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل » . وعلى هذا الاساس فالقوة
غير مشروعة في نيل الحقوق .
2-ب – الحجة :
لأنه من التناقض الحصول على حقوق تمتاز بأنها اخلاقية بوسائل لا اخلاقية "
القوة " ، فالحقوق من القيم التي تتأسس علها العدالة ، وعليه فالعدل والحق
من المبادئ الاخلاقية ومن ثـمّ لا يجوز تحقيقهما بوسائل لا اخلاقية ، لأن
أخلاقية الغاية تفرض بالضرورة اخلاقية الوسيلة .
كما ان ثبات الكثير من الحقوق يستبعد تأسيسها
على القوة او الاعتماد عليها في تحصيلها ، لأنها متغيرة ، وكل ما تأسس على
متغير كان متغيرا بالضرورة .
ثم ان تاريخ المجتمعات يوكد – من جهة أخرى – أن
نسبة كبيرة من الحقوق التي يتمتع بها الافراد ، لم يعتمد على القوة في
نيلها وتحصيلها .
2- النقد :
ولكن القول ان القوة ليست مشروعة في نيل الحقوق ، لا يمنع من كونها وسيلة
مشروعة للدفاع عن هذه الحقوق ضد مغتصبيها ، او للمطالبة بها ان اقتضت
الضرورة .
3- التركيب :
ان الحقوق - من حيث هي مكاسب مادية ومعنوية يتمتع بها الافراد يخولها لهم
القانون وتفرضها الاعراف – لا يمكن ارجاعا الى اساس واحد نظرا لتعدد اسسها ،
فمنها ما يتأسس على طبيعة الانسان ذاتها ، ومنها ما يتأسس على اساس
اجتماعي من حيث ان المجتمع هو الذي يمنحها لأفراده ، ومنها ما يتأسس على
ايماننا الباطني بها واحترامنا لها .
حل المشكلة :
وهكذا يتضح انه لا يمكن اعتبار القوة اساسا سليما للحقوق ، ولا وسيلة
مشروعة لنيلها ، وإن كان ذلك لا يمنعنا من اللجوء الى القوة للدفاع عن
الحقوق او المطالبة بها .
المقالة التاسعة:هل تتأسس العدالة الاجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية
طرح المشكلة :كل
مجتمع من المجتمعات يسعى الى تحقيق العدل بين أفراده ، وذلك بإعطاء كل ذي
حق حقه ، ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي المساواة ، وبين
الفروق الفردية التي تقتضي مراعاتها ، إذ ان تأسيس العدالة على المساواة
يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين الافراد ، وتأسيسها على التفاوت فيه
تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة التالية : ماهو المبدأ
الامثل الذي يحقق عدالة موضوعية : هل هو مبدأ المساواة أم مبدأ التفاوت ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الاطروحة:يرى
البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ، على اعتبار ان العدالة الحقيقية
تعني المساواة بين الجميع الافراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ، وأي
تفاوت بينهم يعد ظلم ، ويدافع عن هذا الرأي فلاسفة القانون الطبيعي
وفلاسفة العقد الاجتماعي وكذا انصار المذهب الاشتراكي .
الحجة :-ويؤكد
ذلك ، ان الافراد – حسب فلاسفة القانون الطبيعي - الذين كانوا يعيشون في
حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ، ومارسوا حقوقهم
الطبيعية على قدم المساواة ، لذلك فالافراد سواسية ، فـ« ليس هناك شيئ
اشبه بشيئ من الانسان بالانسان » ، وعليه فالعدالة تقتضي المساواة بين جميع
الافراد في الحقوق والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ، ومادام الناس
متساوون في كل شيئ فما على العدالة الا ان تحترم هذه المساواة .
- اما فلاسفة العقد الاجتماعي ، فيؤكدون ان
انتقال الانسان من المجتمع الطبيعي الى المجتمع السياسي تـمّ بناءً على
تعاقد ، وبما ان الافراد في المجتمع الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة
وكاملة ، لم يكونوا ليقبلوا التعاقد مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين
لهم ، فالمساواة شرط قيام العقد ، وبالتالي فالعقد قائم على عدالة اساسها
المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات .
- في حين ان الاشتراكيين يرون ان لا عدالة حقيقية
دون مساواة فعلية بين الافراد في الحقوق والواجبات ، ولا تتحقق المساواة
دون الاقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، التي تتيح للجميع
التمتع بهذا الحق ، لأن الملكية الخاصة تكرّس الطبقية والاستغلال وهي بذلك
تقضي على روح المساواة التي هي اساس العدالة .
النقد :إن
انصار المساواة مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ، ويناقضون
الواقع ، لأن التفاوت الطبيعي امر مؤكد ، فالناس ليسوا نسخا متطابقة ولا
متجانسين في كل شيئ ، والفروق الفردية تؤكد ذلك ، ومن ثـمّ ففي المساواة
ظلم لعدم احترام الفروق الفردية الطبيعية .
عرض نقيض الاطروحة :وبخلاف
ما سبق ، يرى البعض الاخر ان العدالة لا تعني بالضرورة المساواة ، بل ان
في المساواة ظلم لعدم احترام الاختلافات بين الناس ، ومن هذا المنطلق فإن
العدالة الحقيقة تعني تكريس مبدأ التفاوت ، إذ ليس من العدل ان نساوي بين
اناس متفاوتين طبيعيا . ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فلاسفة قدامى
ومحدثين وايضا بعض العلماء في ميدان علم النفس والبيولوجيا .
الحجة :-فأفلاطون
قديما قسم المجتمع الى ثلاث طبقات : طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة
العبيد ، وهي طبقات تقابل مستويات النفس الانسانية : النفس العاقلة
والغضبية والشهوانية ، وهذا التقسيم يرجع الى الاختلاف بين الافراد في
القدرات والمعرفة والفضيلة ، وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ،
ومن واجب الدولة ان تراعي هذه الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد .
- اما ارسطو فاعتبر التفاوت قانون الطبيعة ، حيث
ان الناس متفاوتين بطبيعتهم ومختلفين في قدراتهم وفي ارادة العمل وقيمة
الجهد المبذول ، وهذا كله يستلزم التفاوت في الاستحقاق ؛ فلا يجب ان يحصل
اناس متساوون على حصص غير متساوية ، او يحصل اناس غير متساويين على حصص
متساوية .
- وحديثا يؤكد ( هيجل 1770 – 1831 ) على مبدأ
التفاوت بين الامم ، وان الامة القوية هي التي يحق لها امتلاك كل الحقوق
وتسيطر على العالم ، على اساس انها افضل الامم ، وعلى الامم الاخرى واجب ،
هو الخضوع للامة القوية.
- وفي نفس الاتجاه ، يذهب ( نيتشه 1844 – 1900 )
ان التفاوت بين الافراد قائم ولا يمكن انكاره ، فيقسم المجتمع الى طبقتين :
طبقة الاسياد وطبقة العبيد ، وان للسادة اخلاقهم وحقوقهم ، وللعبيد
اخلاقهم وواجباتهم .
- أما انصار المذهب الرأسمالي فيقيمون العدل على
اساس التفاوت ، فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ، إذ لا يجب مساواة
الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ، ولا العامل المجد البارع
بالعامل الكسول الخامل ، بل لابد من الاعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه ، لأن
ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين المتفاوتين .
- ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله واجب ، غير
ان قدرة الافراد في رد الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجالات عدة : فمن
الناحية البيولوجية ، هناك اختلاف بين الناس في بنياتهم البيولوجية
والجسمانية ، مما ينتج عنه اختلاف قدرتهم على العمل ورد الواجب ، لذلك فليس
من العدل مساواتهم في الحقوق ، بل يجب ان نساعد أولئك الذين يملكون افضل
الاعضاء والعقول على الارتقاء اجتماعيا ، يقول الطبيب الفيزيولوجي الفرنسي (
ألكسيس كاريل 1873 – 1944 ) : « بدلا من ان نحاول تحقيق المساواة بين
اللامساواة العضوية والعقلية ، يجب توسيع دائرة هذه الاختلافات وننشئ رجالا
عظماء » . ومن الناحية النفسية ، نجد تمايز بين الافراد من حيث مواهبهم
وذكائهم وكل القدرات العقلية الاخرى ، ومن العبث ان نحاول مساواة هؤلاء
المتفاوتون طبيعيا .
واخيرا ومن الناحية الاجتماعية ، فالناس ليسوا
سواء ، فهناك الغني الذي يملك والفقير الذي لا يملك ، والملكية حق طبيعي
للفرد ، وليس من العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها آخرين بدعوى المساواة .
النقد :ان
التفاوت الطبيعي بين الافراد امر مؤكد ولا جدال فيه ، غير انه لا ينبغي ان
يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري . كما قد يكون الاختلاف
في الاستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية لا طبيعية فيظهر تفاوت لا تحترم فيه
الفروق الفردية .
التركيب :ان
المساواة المطلقة مستحيلة ، والتفاوت الاجتماعي لا شك انه ظلم ، وعلى
المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو نسبيا من العدالة ، ولا يكون ذلك
الا بتوفير شروط ذلك ، ولعل من أهمها اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين
الكفاءة والاستحقاق ومحاربة الاستغلال .
حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها وحديثها الى تجسيدها ، ويبقى
التناقض قائما حول الاساس الذي تبنى عليه العدالة ، غير ان المساواة – رغم
صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى تحقيق هذه العدالة كقيمة
اخلاقية عليا .
المقالة العاشرة :هل يمكن إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية ؟ جدلية .
I- طرح المشكلة :إن
الدولة وجدت لإجل غايات ذات طابع أخلاقي ، مما يفرض أن تكون الممارسة
السياسية أيضا أخلاقية ، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك تماماً ، سواء تعلق
الامر بالممارسة السياسية على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العلاقات
بين الدول ، حيث يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق .. وكأن العمل
السياسي لا ينجح إلا إذا أُبعدت القيم الاخلاقية ؛ فهل فعلا يمكن إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية من العمل السياسي ؟
- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة:يرى
بعض المفكرين ، أن لاعلاقة بين الاخلاق والسياسة ، لذلك يجب إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية تماماً من العمل السياسي ، وهو ما يذهب إليه صراحة
المفكر الايطالي " ميكيافيلي 1469 –1527 " في كتابه " الامير " ، حيث يرى
أن مبدأ العمل السياسي هو : « الغاية تبرر الوسيلة » ، فنجاح العمل السياسي
هو ما يحققه من نتائج ناجحة كإستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح
الحيوية .. بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت لاأخلاقية ،
بل ويذهب الى أبعد من ذلك ، فيزعم أن الاخلاق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها ،
وان الدول التي تبني سياستها على الاخلاق تنهار بسرعة.
ويوافقه في ذلك أيضاً فيلسوف القوة " نيتشه 1844
–1900 " ، الذي يرى أن السياسة لا تتفق مع الاخلاق في شيئ ، والحاكم المقيد
بالاخلاق ليس بسياسي بارع ، وهو لذلك غير راسخ على عرشه ، فيجب على طالب
الحكم من الالتجاء الى المكر والخداع والرياء ، فالفضائل الانسانية العظيمة
من الاخلاص والامانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في السياسة . وعلى الحاكم
أن يكون قوياً ، لأن الاخلاق هي سلاح الضعفاء ومن صنعهم .
1-ب - الحجة:وما
يبرر ذلك أن المحكوم إنسان ، والانسان شرير بطبعه ، يميل الى السيطرة
والاستغلال والتمرد وعدم الخضوع الى السلطة المنظمة ، ولو ترك على حاله
لعاد المجتمع الى حالته الطبيعية ، فتسود الفوضى والظلم واستغلال القوي
للضعيف ، ويلزم عن ذلك استعمال القوة وجميع الوسائل لردع ذلك الشر حفاظا
على استقرار الدولة ويقائها .
ومن جهة ثانية ، فالعلاقات السياسية بين الدول
تحكمها المصالح الحيوية الاستراتيجية ، فتجد الدولة نفسها بين خيارين : إما
تعمل على تحقيق مصالحها بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقية ، وإما تراعي
الاخلاق التي قد لا تتفق مع مصالحها ، فتفقدها ويكون مصيرها الضعف
والانهيار .
1جـ - النقد :ولكن
القول أن الانسان شرير بطبعه مجرد زعم وإفتراض وهمي ليس له أي أساس من
الصحة ؛ فالانسان مثلما يحمل الاستعداد للشر يحمل أيضا الاستعداد للخير ،
ووظيفة الدولة تنمية جوانب الخير فيه ، أما لجوئها الى القوة فدليل على
عجزها عن القيام بوظيفتها ، والا فلا فرق بين الدولة كمجتمع سياسي منظم
والمجتمع الطبيعي حيث يسود منطق الظلم والقوة .
هذا ، واستقراء ميكيافيلي للتاريخ إستقراء ناقص ،
مما لا يسمح بتعميم أحكامه ، فهو يؤكد – من التاريخ – زوال الدول التي
بنيت على اسس أخلاقية ، غير أن التاريخ نفسه يكشف ان الممارسة السياسية في
عهد الخلفاء الراشدين كانت قائمة على اساس من الاخلاق ، والعلاقة بين
الخليفة والرعية كانت تسودها المحبة والاخوة والنصيحة ، مما أدى الى ازدهار
الدولة لا إنهيارها .
وأخيراً ، فالقوة أمر نسبي ، فالقوي اليوم ضعيف
غداً ، والواقع أثبت أن الدول والسياسات التي قامت على القوة كان مصيرها
الزوال ، كما هو الحال بالنسبة للانظمة الاستبدادية الديكتاتورية .
2-أ-عرض نقيض الاطروحة :
وخلافا لما سلف ، يعتقد البعض الاخر أنه من الضروري مراعاة القيم
الاخلاقية في الممارسة السياسية ، سواء تعلق الامر بالعلاقة التي تربط
الحاكم والمحكومين على مستوى الدولة الواحدة ، أو على مستوى العلاقات بين
الدول . ومعنى ذلك ، أن على السياسي أن يستبعد كل الوسائل اللااخلاقية من
العمل السياسي ، وأن يسعى الى تحقيق العدالة والامن وضمان حقوق الانسان
الطبيعية والاجتماعية . وهذا ما دعا إليه أغلب الفلاسفة منذ القديم ، فهذا "
أرسطو " يعتبر السياسة فرعاً من الاخلاق ، ويرى أن وظيفة الدولة الاساسية
هي نشر الفضيلة وتعليم المواطن الاخلاق . ثم حديثا الفيلسوف الالماني "
كانط 1724 –1804 " ، الذي يدعو الى معاملة الانسان كغاية في ذاته وليس
كمجرد وسيلة ، كما دعا في كتابه " مشروع السلام الدائم " الى إنشاء هيئة
دولية تعمل على نشر السلام وفك النزاعات بطرق سلمية وتغليب الاخلاق في
السياسة ، وهو ما تجسد – لاحقا – في عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ،
كما دعا الى ضرورة قيام نظام دولي يقوم على الديمقراطية والتسامح والعدل
والمساواة بين الشعوب والامم . ومن بعده ألـحّ فلاسفة معاصرون على أخلاقية
الممارسة السياسية ، أبرزهم الفرنسي " هنري برغسون 1856 – 1941 " و
الانجليزي " برتراند رسل 1871 –1969 " .
2-ب-الحجة: إن
الدولة خصوصاً والسياسة عموما ً إنما وجدتا لأجل تحقيق غايات أخلاقية
منعدمة في المجتمع الطبيعي ، وعليه فأخلاقية الغاية تفرض أخلاقية الوسيلة .
كما أن ارتباط السياسة بالاخلاق يسمح بالتطور والازدهار نتيجة بروز الثقة
بين الحكام والمحكومين ، فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى الافراد في العمل
.
ثم ان غياب الاخلاق وابتعادها من المجال السياسي
يوّلد انعدام الثقة والثورات على المستوى الداخلي ، أما على المستوى
الخارجي فيؤدي الى الحروب ، مع ما فيها من ضرر على الامن والاستقرار وإهدار
لحقوق الانسان الطبيعية ، وهذا كله يجعل الدولة تتحول الى أداة قمع وسيطرة
واستغلال .
2-جـ النقد :لا
يمكن إنكار أهمية دعوة الفلاسفة الى أخلاقية الممارسة السياسية ، إلا ان
ذلك يبقـى مجرد دعوة نظرية فقط ، فالقيم الاخلاقية وحدها – كقيم معنوية –
لا تكفي لتجعل التظيم السياسي قوياً قادراً على فرض وجوده وفرض احترام
القانون ، ولا هي تستطيع ايضاً ضمان بقاء الدولة واستمرارها ، وهو الامر
الذي يؤكد صعوبة تجسيد القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية .
3-التركيب :وفي
الواقع أنه لا يمكن الفصل بين الاخلاق والسياسة ، لذلك فغاية الممارسة
السياسية يجب أن تهدف الى تجسيد القيم الاخلاقية وترقية المواطن والحفاظ
على حقوقه الاساسية ، دون إهمال تحقيق المصالح المشروعة التي هي اساس بقاء
الدولة وازدهارها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح ، أنه لا يمكن إطلاقا إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية
رغم صعوبة تجسيدها في الواقع . ومن جهة أخرى ، فالاخلاق بدون قوة ضعف ،
والقوة بدون أخلاق ذريعة للتعسف ومبررللظلم . وعليه فالسياسي الناجح هو
الذي يتخذ من القوة وسيلة لتجسيد القيم الاخلاقية وأخلاقية الممارسة
السياسية .
المقالة الحادية عشر (تصميم جزئي )
الموضوع الثامن:إذا
كانت التجربة لا تعطينا عدداً خالصاً مجرداً ولا خطاً دون عرض ولا سطحاً
دون سمك ، فهل يعني ذلك أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة
الحسية ؟
I- طرح المشكلة :هل المفاهيم الرياضية أصلها عقلي أم تجريبي ؟
II- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يرى أصار النزعة العقلية المثالية أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة الحسية ، بل هي مفاهيم عقلية خالصة .
1-ب- الحجة :-
لأن المفاهيم الرياضية مفاهيم مجردة أنشأها العقل و استنبطها من مبادئه
الاساسية ( الهوية ، عدم التناقض ، الثالث المرفوع ) من دون الحاجة الى
الرجوع الى الواقع الحسي .
- ان التجربة لا تعطينا عدداً خالصاً مجرداً ولا
خطاً دون عرض ولا سطحاً دون سمك ، مما يعني ان المفاهيم الرياضية نابعة من
العقل وموجودة فيه بصورة قبلية .
- المفاهيم الرياضية هي حقائق معقولة وهي مفاهيم
ازلية وثابتة ، والعقل كان يدركها في عالم المثل ، ولكن عند مفارقته لهذا
العالم نسيها ، وما عليه الا تذكرها ( افلاطون ) .
- ان المفاهيم الرياضية هي مفاهيم فطرية تتميز
بالبساطة والبداهة واليقين ، وبما ان العقل قاسم مشترك بين جميع الناس ،
فإن الناس جميعهم بإمكانهم ادراك هذه المفاهيم ( ديكارت ) .
1-جـ- النقد :إن
الطفل الصغير يمزج بين العدد والشيئ المعدود . وتاريخ الرياضيات يقدم لنا
الشواهد على ان العمل الرياضي بدأ حسيا ، وتدرج شيئا فشيئا نحو التجريد
بإدخال الصفر والعدد السالب والعدد الكسري ... ثم لو كانت المفاهيم
الرياضية فطرية لتساوى في العلم بها الجميع ، لكنها مفاهيم لا يدركها الا
القلة القليلة من المتخصصين .
2-أ- عرض الاطروحة :يؤكد أنصار النزعة الحسية التجريبية ان المفاهيم الرياضية مثل سائر معارفنا مستمدة من التجربة الحسية .
2-ب- الحجة :مجموعة
من الاشجار اوحت بفكرة العدد ، وان بعض الاشياء الطبيعية اوحت بالاشكال
الهندسية ، فشكل الشمس مثلا اوحى بفكرة الدائرة ، وان الانسان في اقدم
العصور استعان في العدّ بالحصى والاصابع .. ثم ان تجربة مسح الاراضي عند
قدماء المصريين هي التي ادت الى نشوء علم الهندسة . وان الهندسة اسبق ظهورا
من الحساب او الجبر لأنها اقرب الى التجربة .
2-جـ- النقد :ان
المفاهيم الرياضية ليست كما اعتقد التجريبيون مستمدة من التجربة الحسية ،
فهذه الاخيرة لم تكن الاحافزا للعقل على تجريد المعاني الرياضية .
3- التركيب :في
الحقيقة ان هناك تلازم بين العقل والتجربة ، فلا وجود لمعرفة عقلية خالصة
ولا لمعرفة تجريبية خالصة . وعلى هذا الاساس ، فإنه من المنطق القول ان اصل
الرياضيات يعود الى التجربة الحسية ، فهي قبل ان تصبح علما عقليا قطعت
مرحلة كلها تجريبية ، ولكن العقل جرّد تلك المعاني الحسية ، فأصبحت مفاهيم
مجردة .
III- حل المشكلة : إن أصل المفاهيم الرياضية هو التجربة الحسية ، ثم اصبحت مفاهيم مجردة لا علاقة لها بالواقع .
المقالة الثانية عشر:اذا كانت الرياضيات لا تقدم معرفة تجريبية ، ففيم تتمثل قيمتها ؟ اسنقصاء
* تعتبر التجرية مقياس اساسي نحكم به على " علمية
" أي معرفة من المعارف ، ومن المعلوم ان الرياضيات علم عقلي بحت ، مجرد
تماما عن ماهو محسوس ، لذلك فهي لا تقدم أي معرفة تجريبية ، والسؤال الذي
يطرح هنا ؛ فيم تكمن قيمة الرياضيات اذا كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ؟
1-
إن موضوع الرياضيات هو الكميات العقلية المجردة ، التي تتميز بالثبات
والاستقلالية عن الواقع المحسوس ، ولغتها الرموز من ثوابت ومتغيرات ، وليست
ألفاظ اللغة العادية التي تتصف بالغموض والابهام . ومنهجها الاستدلال
العقلي ذو الطبيعة الاستنتاجية – الافتراضية ، يراعي فيه الرياضي عدم تناقض
النتائج مع ما يفترضه من قضايا أولية دون الرجوع الى الواقع الحسي . كما
توصف الرياضيات بالخصوبة نظرا لتعدد فروعها ( كالجبر ، الهندسة ، الهندسة
التحليلية ، نظرية المجموعات ، حساب الاحتمالات .. ) وتعدد انساقها ( كنسق
اقليدس ، نسق لوباتشوفسكي ، نسق ريمان .. ) دون ان يكون هناك تناقضا بين
هذه الفروع والانساق . كما تعود خصوبتها
الى طبيعة البرهان الرياضي ، فهو – بخلاف القياس الارسطي – يتميز بخاصيتيه
التركيبية والتعميمية ، حيث ننتقل فيه من البسيط الى المركب ومن الخاص الى
العام .
2-
ان الرياضيات وان كانت من العلوم التجريدية فهي لغة العلوم التجريبية ،
وتكمن قيمتها في استعانة العلوم التجريبية بها في صياغة نتائجها . حيث ان
العلوم على اختلافها – سواء الطبيعية منها التي تدرس المادة الجامدة او
الحية ، أو الانسانية التي تدرس الانسان ومختلف مواقفه – تسعى الى استخدام
الرياضيات في مباحثها ومناهجها وصياغة نتائجها ..
ولقد كانت الرياضيات حتى القرن 17 م منفصلة عن
العلوم ، وحينئذ تبيّن – كما قال " غاليلي " – أن : « الطبيعة مكتوبة بلغة
رياضية » ، ومادامت الطبيعة – التي هي موضوع العلم – مكتوبة كذلك – فإنه لا
يصلح لفهم العلاقات التي تربط بين ظواهرها الا استعمال لغة الرياضيات ،
التي هي – حسب " بوانكاري " – « اللغة الوحيدة التي يستطيع العاِلم أن
يتكلم بها » .. وهكذا بدأت الرياضيات تغزو العلوم .
فلقد صاغ " غاليلي " قانون سقوط الاجسام صياغة رياضية ( ع = ½ ج x
ز2 ) ، وكذلك فعل " نيوتن في قانون الجاذبية ، لتعرف الفيزياء بعدها
استعمالا واسعا للرياضيات ، كما هو الحال في قوانين السرعة والتسارع و حركة
الاجسام .
هذا ، وقد حسب " كبلر " حركة كوكب المريخ حسابا
رياضيا ، ليعرف علم الفلك – هو الاخر – استعمال لغة الرياضيات ، كحساب حركة
الكواكب والظواهر مثل الكسوف والخسوف والمواقيت ..
إضافة الى ذلك ، فإن الكمياء إبتداءً من "
لافوازييه " أصبحت تعبر عن تفاعل العناصر و عمليات الاكسدة والارجاع في شكل
معادلات رياضية ، كما أصبح العنصر الكميائي يعرف بوزنه الذري ..
والامر نفسه في البيولوجيا ، لاسيما استخدام
الاحصاء الرياضي مثلما فعل " مندل " في قوانين الوراثة . والواقع اليومي
يكشف عن استعمال واسع للرياضيات في البيولوجيا ، وتحديدا في ميدان الطب ،
حيث تكمم دقات القلب وعدد كريات الدم ونسبة السكر ومعدل الضغط ...
ولم يقتصر استعمال الرياضيات على العلوم الطبيعية
المادية فحسب ، بل تعداه الى العلوم الانسانية ؛ فلقد تمكن علماء النفس
الالمان " فيبر " و " فيخنر " من صياغة قانون رياضي للاحساس هو قانون
العتبة المطلقة والعتبة الفارقة . كما وضع الفرنسي " بيني " مقياسا رياضيا
عاما لدرجة الذكاء ونسبته ، هو العمر العقلي مقسوما على العمر الزمني
مضروبا في 100 . و ذات الامر في الاقتصاد والجغرافيا البشرية ؛ حيث يستعمل
الاحصاء وحساب الاحتمالات والتعبير عن النتائج في شكل معادلات رياضية
ومنحنيات بيانية ودوائر نسبية .
3-
و تكمن قيمة الرياضيات في كونها ساهمت في تطور العلوم ، من مجرد وصف كيفي
للظواهر يعتد على اللغة العادية المبهمة الى تحديد كم دقيق لها ؛ فالعلوم
لم تبلغ الدقة في فهم ظواهرها ومن ثــمّ التنبؤ بها ، الا بعدما صارت تصوغ
نتائجها صياغة رياضية .
هذا من جهة ، ومن جهة فإن الرياضيات تهيئ للعلم
المفاهيم التي يقوم عليها، مثال ذلك ان " نيوتن " اقتبس مفهوم المكان من
المكان الحسي عند " إقليدس " ، ولولا هندسة " ريمان " لما كانت نسبية "
إنشتاين " .
ومن جهة ثالثة ، فإن الرياضيات تسمح باكتشاف
القوانين العلمية دون الحاجة الى المرور بالملاحظة والتجربة ، مثال ذلك أن
حساب العالم " لوفيريي " لكوكب " أورانيوس " أدى الى اكتشاف كوكب " نيبتون
" ، كما وصل العالم " ماكسويل " الى اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية ووضع
لها أربع معادلات رياضية أحاطت بخواصها من حسابات رياضية خالصة ، ولم يتحقق
منها العلماء تجريبيا الا بعد مرور ثمانين – 80 – سنة .
* وهكذا يتضح ، أن للرياضيات قيمة كبرى باعتبارها
لغة العلوم الحديثة ، فهي وإن كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ، فإنها
اللغة التي تستخدمها هذه العلوم في التعبير عن نتائجها . فالرياضيات تمثل
نموذجا للوضوح ومعيارا للدقة واليقين وطريقا للابداع ، وهو ما يهدف كل علم
الى بلوغه .
الموضوع الثالثة عشر :هل يمكن اخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي على غرار المادة الجامدة ؟ جدلية
I- طرح المشكلة :تختلف
المادة الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة ، الامر الذي جعل البعض
يؤمن ان تطبيق خطوات المنهج التجربيي عليها بنفس الكيفية المطبقة في المادة
الجامدة متعذرا ، و يعتقد آخرون ان المادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها
مما يسمح بامكانية اخضاعها للدراسة التجريبية ، فهل يمكن فعلا تطبيق
المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة الجامدة ؟
II– محاولة حل المشكلة :
1- أ- الاطروحة :يرى
البعض ، أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجرببي على الظواهر الحية بنفس
الكيفية التي يتم فيها تطبيقه على المادة الجامدة ، إذ تعترض ذلك جملة من
الصعوبات و العوائق ، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو المادة
الحية ، و بعضها الاخر الى يتعلق بتطبيق خطوات المنج التجريبي عليها .
1-ب- الحجة :و
يؤكد ذلك ، أن المادة الحية – مقارنة بالمادة الجامدة – شديدة التعقيد
نظرا للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل
للمحافظة على النوع و الاستمرار في البقاء . ثم إن المحافظة على توازن
الجسم الحي يكون عن طريقالتغذية التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي
يحتاجها الجسم . كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل التي هي مراحل
النمو ، فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب للمرحلة اللاحقة .
هذا ، و تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال
الوظيفة التي تؤديها ، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة
من الاعضاء ، مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و اذا اختل العضو تعطلت
الوظيفة و لا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها . و تتميز الكائنات الحية – ايضا –
بـالوحدة العضوية التي تعني ان الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته
الا في اطار هذا الكل ، و سبب ذلك يعود الى أن جميع الكائنات الحية –
باستثناء الفيروسات – تتكون من خلايا .
بالاضافة الى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع ،
هناك صعوبات تتعلق بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ،
و أول عائق يصادفنا على مستوى المنهج هو عائقالملاحظة
؛ فمن شروط الملاحظة العلمية الدقة و الشمولية و متابعة الظاهرة في جميع
شروطها و ظروفها و مراحلها ، لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية ،
فلأنها حية فإنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل و
تكامل و ترابط الاجزاء العضوية الحية فيما بينها ، مما يحول دون ملاحظتها
ملاحظة علمية ، خاصة عند حركتها أو اثناء قيامها بوظيفتها . كما لا يمكن
ملاحظة العضو معزولا ، فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة
العلمية ، ثم ان عزل العضو قد يؤدي الى موته ، يقول أحد الفيزيولوجيين
الفرنسيين : « إن سائر اجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ، فهي لا تتحرك
الا بمقدار ما تتحرك كلها معا ، و الرغبة في فصل جزء منها معناه نقلها من
نظام الاحياء الى نظام الاموات ».
و دائما على مستوى المنهج ، هناك عائق التجريب
الذي يطرح مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة
الفرق بين الوسطين الطبيعي و الاصطناعي ؛ فالكائن الحي في المخبر ليس كما
هو في حالته الطبيعية ، إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي الى شروط اصطناعية
يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن .
ومعلوم ان التجريب في المادة الجامدة يقتضي تكرار
الظاهرة في المختبر للتأكد من صحة الملاحظات و الفرضيات ، و اذا كان
الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع و تكرار الظاهرة وقت ما شاء ،
ففي المادة الحية يتعذر تكرار التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما الى نفس
النتيجة ، مثال ذلك ان حقن فأر بـ1سم3 من المصل لا يؤثر فيه في المرة
الاولى ، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ، و الثالثة تؤدي الى موته ،
مما يعني أن نفس الاسباب لا تؤدي الى نفس النتائج في البيولوجيا ، و هو ما
يلزم عنه عدم امكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ، علما
ان التجريب و تكراره يستند الى هذا المبدأ .
و بشكل عام ، فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ، ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة .
و من العوائق كذلك ، عائق التصنيف و التعميم ؛
فإذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو
فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين أصناف الظواهر داخل كل صنف ، فإن التصنيف
في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن
غيره ، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشوّه طبيعة الموضوع مما
يؤثر سلبا على نتائج البحث .
وهذا بدوره يحول دون تعميم النتائج على جميع
افراد الجنس الواحد ، بحيث ان الكائن الحي لا يكون هو هو مع الانواع الاخرى
من الكائنات ، ويعود ذلك الى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي .
1-جـ- النقد :لكن
هذه مجرد عوائق تاريخية لازمت البيولوجيا عند بداياتها و محاولتها الظهور
كعلم يضاهي العلوم المادية الاخرى بعد انفصالها عن الفلسفة ، كما ان هذه
العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم الاخرى التي لها علاقة
بالبيولوجيا خاصة علم الكمياء .. و سرعان ما تــمّ تجاوزها .
2-أ- نقيض الاطروحة :وخلافا
لما سبق ، يعتقد البعض أنه يمكن اخضاع المادة الحية الى المنهج التجريبي ،
فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات ، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين
الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة
الجامدة . ويعود الفضل في ادخال المنهج التجريبي في البيولوجيا الى العالم
الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت
المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي .
2-ب- الادلة :و
ما يثبت ذلك ، أنه مادامت المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة
كالاوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الازوت و الكالسيوم و الفسفور ...
فإنه يمكن دراسة المادة الحية تماما مثل المادة الجامدة .
هذا على مستوى طبيعة الموضوع ، اما على مستوى
المنهج فقد صار من الممكن القيام بالملاحظة الدقيقة على العضوية دون الحاجة
الى فصل الاعضاء عن بعضها ، أي ملاحظة العضوية وهي تقوم بوظيفتها ، و ذلك
بفضل ابتكار وسائل الملاحظة كالمجهر الالكتروني و الاشعة و المنظار ...
كما اصبح على مستوى التجريب القيام بالتجربة دون
الحاجة الى ابطال وظيفة العضو أو فصله ، و حتى و إن تــمّ فصل العضو الحي
فيمكن بقائه حيا مدة من الزمن بعد وضعه في محاليل كميائية خاصة .
2-جـ- النقد :ولكن
لو كانت المادة الحية كالجامدة لأمكن دراستها دراسة علمية على غرار المادة
الجامدة ، غير ان ذلك تصادفه جملة من العوائق و الصعوبات تكشف عن الطبيعة
المعقدة للمادة الحية . كما انه اذا كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا
حتميا و آليا ، فإن للغائية إعتبار و أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ،
مع ما تحمله الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية
علاقة بها .
3- التركيب :و
بذلك يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها دراسة العلمية ، لكن مع
مراعاة طبيعتها وخصوصياتها التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة ، بحيث بحيث
يمكن للبيولوجيا ان تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية الاخرى مع
الاحتفاظ بطبيعتها الخاصة ، يقول كلود بيرنار : « لابد لعلم البيولوجيا أن
يأخذ من الفيزياء و الكمياء المنهج التجريبي ، مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة و
قوانينه الخاصة ».
III- حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى المنهج خاصة ، يعود
اساسا الى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ، والى كون
البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ، و يمكنه تجاوز تلك العقبات
التي تعترضه تدريجيا .
طرح المشكلة :
إن العدالة مبدأ أخلاقي سامي ، سعت المجتمعات قديمها وحديثها الى جعلها
واقعا ملموسا بين افرداها ، ولا يمكن ان يحصل ذلك الا اذا أُعطي كل ذي حق
حقه ، والحق هو الشيئ الثابت الذي لا يجوز إنكاره طبيعيا كان او اجتماعيا
او اخلاقيا . الا ان المفكرين والفلاسفة اختلفوا في الوسائل التي تمكننا من
نيل هذه الحقوق ، فاعتقد البعض منهم بأن القوة وسيلة مشروعة لتحقيقها ،
فهل يمكن اعتبار القوة – حقيقة – آداة مشروعة لنيل الحقوق ؟ بمعنى : هل
يمكن تأسيس الحقوق على أساس القوة ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة :
لقد ذهب فريق من الفلاسفة الى اعتبار القوة آداة مشروعة لنيل الحقوق ،
واساس سليما يمكن ان تقوم عليه هذه الحقوق ، ونجد من بين هؤلاء المفكر
الايطالي " ميكيافيلي " الذي يرى أن : « الغاية تبرر الوسيلة » ، حتى وان
كانت الوسيلة لا اخلاقية ، فإذا كان الانتصار ومن ثـمّ نيل الحقوق هو ضالة
الحاكم وهدفه ، فلابد من استعمال القوة اذا كان الامر يستدعي ذلك . اما
الفيلسوف الانجليزي " توماس هوبز " فيرى ان القوي هو الذي يحدد الخير والشر
. بينما الفيلسوف الهولندي " سبينوزا " يرى : « أن كل فرد يملك من الحق
بمقدار ما يملك من القوة » كما أشاد الفيلسوف الالماني " نيتشه " بإرادة
القوة حلى حساب الضعفاء . ونجد – في الاخير –. الفيلسوف الالماني المادي "
كارل ماركس " الذي يذهب الى ان الحقوق ماهي الا مظهرا لقوة الطبقة المسيطرة
اجتماعيا والمهيمنة اقتصاديا . وعليه فالقوة – حسب هؤلاء – آداة مشروعة بل
وضرورية لنيل الحقوق .
1-ب- الحجة :
وما يؤكد مشروعية القوة كوسيلة لاكتساب الحقوق هو تاريخ المجتمعات
الانسانية نفسه ؛ إذ يثبت بأن كثيرا من الحقوق وجدت بفضل استخدام القوة ،
فقيام النزاعات والثورات انتهت في معظمها بتأسيس الكثير من الحقوق ، التي
صارت فيما بعد موضع اعتراف من طرف الجميع ، مثال ذلك أن الكثير من الشعوب
المستعمرة استردت حريتها – كحق طبيعي – بفعل الثورة المسلحة أي القوة
العسكرية .
كما ان المجتمع الدولي حاليا يثبت بأن الدول التي تتمتع بحق النقض ( الفيتو) في مجلس الامن هي الدول القوية اقتصاديا واجتماعيا .
1-جـ- النقد :
لا ننكر ان بعض الحقوق تـمّ نيلها عن طريق القوة ، لكن ذلك لا يدعونا الى
التسليم أنها – أي القوة – وسيلة مشروعة للحصول على جميع الحقوق ، لأن ذلك
يؤدي الى انتشار قانون الغاب فيأكل بموجبه القوي الضعيف ، وبالتالي تفسد
الحياة الاجتماعية وتهدر الكثير من الحقوق .
اضافة الى ذلك فالقوة امر نسبي أي متغير ، فالقوي
اليوم ضعيف غداً والعكس صحيح ، ولأجل ذلك فإن الحق الذي يتأسس على القوة
يزول بزوالها .
2-أ- نقيض الاطروحة :
خلافا للموقف السابق ، يذهب فريق من الفلاسفة الى الاعتقاد أن القوة لا
يمكن ان تعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لنيل الحقوق ، ولا ينبغي بأي حال من
الاحول ان تكون اساسا للحقوق . و الذين يدافعون عن هذه الوجهة من النظر
الفيلسوف الفرنسي " جان جاك روسو " الذي يقول : « إن القوة سلطة مادية ،
ولا أرى بتاتا كيف تنجم الاخلاقية من نتائجها » ، فالقوة بهذا المعنى لا
يمكن ان تصنع الحق ، ولعل هذه ما ذهب اليه الزعيم الهندي " غاندي " عندما
بـيّـن أن استخدام القوة في سبيل نيل الحقوق ماهو سوى مجرد فلسفة مادية لا
اخلاقية ، حيث يقول : « اننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصوم ،
ولكن بمدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل » . وعلى هذا الاساس فالقوة
غير مشروعة في نيل الحقوق .
2-ب – الحجة :
لأنه من التناقض الحصول على حقوق تمتاز بأنها اخلاقية بوسائل لا اخلاقية "
القوة " ، فالحقوق من القيم التي تتأسس علها العدالة ، وعليه فالعدل والحق
من المبادئ الاخلاقية ومن ثـمّ لا يجوز تحقيقهما بوسائل لا اخلاقية ، لأن
أخلاقية الغاية تفرض بالضرورة اخلاقية الوسيلة .
كما ان ثبات الكثير من الحقوق يستبعد تأسيسها
على القوة او الاعتماد عليها في تحصيلها ، لأنها متغيرة ، وكل ما تأسس على
متغير كان متغيرا بالضرورة .
ثم ان تاريخ المجتمعات يوكد – من جهة أخرى – أن
نسبة كبيرة من الحقوق التي يتمتع بها الافراد ، لم يعتمد على القوة في
نيلها وتحصيلها .
2- النقد :
ولكن القول ان القوة ليست مشروعة في نيل الحقوق ، لا يمنع من كونها وسيلة
مشروعة للدفاع عن هذه الحقوق ضد مغتصبيها ، او للمطالبة بها ان اقتضت
الضرورة .
3- التركيب :
ان الحقوق - من حيث هي مكاسب مادية ومعنوية يتمتع بها الافراد يخولها لهم
القانون وتفرضها الاعراف – لا يمكن ارجاعا الى اساس واحد نظرا لتعدد اسسها ،
فمنها ما يتأسس على طبيعة الانسان ذاتها ، ومنها ما يتأسس على اساس
اجتماعي من حيث ان المجتمع هو الذي يمنحها لأفراده ، ومنها ما يتأسس على
ايماننا الباطني بها واحترامنا لها .
حل المشكلة :
وهكذا يتضح انه لا يمكن اعتبار القوة اساسا سليما للحقوق ، ولا وسيلة
مشروعة لنيلها ، وإن كان ذلك لا يمنعنا من اللجوء الى القوة للدفاع عن
الحقوق او المطالبة بها .
المقالة التاسعة:هل تتأسس العدالة الاجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية
طرح المشكلة :كل
مجتمع من المجتمعات يسعى الى تحقيق العدل بين أفراده ، وذلك بإعطاء كل ذي
حق حقه ، ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي المساواة ، وبين
الفروق الفردية التي تقتضي مراعاتها ، إذ ان تأسيس العدالة على المساواة
يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين الافراد ، وتأسيسها على التفاوت فيه
تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة التالية : ماهو المبدأ
الامثل الذي يحقق عدالة موضوعية : هل هو مبدأ المساواة أم مبدأ التفاوت ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الاطروحة:يرى
البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ، على اعتبار ان العدالة الحقيقية
تعني المساواة بين الجميع الافراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ، وأي
تفاوت بينهم يعد ظلم ، ويدافع عن هذا الرأي فلاسفة القانون الطبيعي
وفلاسفة العقد الاجتماعي وكذا انصار المذهب الاشتراكي .
الحجة :-ويؤكد
ذلك ، ان الافراد – حسب فلاسفة القانون الطبيعي - الذين كانوا يعيشون في
حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ، ومارسوا حقوقهم
الطبيعية على قدم المساواة ، لذلك فالافراد سواسية ، فـ« ليس هناك شيئ
اشبه بشيئ من الانسان بالانسان » ، وعليه فالعدالة تقتضي المساواة بين جميع
الافراد في الحقوق والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ، ومادام الناس
متساوون في كل شيئ فما على العدالة الا ان تحترم هذه المساواة .
- اما فلاسفة العقد الاجتماعي ، فيؤكدون ان
انتقال الانسان من المجتمع الطبيعي الى المجتمع السياسي تـمّ بناءً على
تعاقد ، وبما ان الافراد في المجتمع الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة
وكاملة ، لم يكونوا ليقبلوا التعاقد مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين
لهم ، فالمساواة شرط قيام العقد ، وبالتالي فالعقد قائم على عدالة اساسها
المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات .
- في حين ان الاشتراكيين يرون ان لا عدالة حقيقية
دون مساواة فعلية بين الافراد في الحقوق والواجبات ، ولا تتحقق المساواة
دون الاقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، التي تتيح للجميع
التمتع بهذا الحق ، لأن الملكية الخاصة تكرّس الطبقية والاستغلال وهي بذلك
تقضي على روح المساواة التي هي اساس العدالة .
النقد :إن
انصار المساواة مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ، ويناقضون
الواقع ، لأن التفاوت الطبيعي امر مؤكد ، فالناس ليسوا نسخا متطابقة ولا
متجانسين في كل شيئ ، والفروق الفردية تؤكد ذلك ، ومن ثـمّ ففي المساواة
ظلم لعدم احترام الفروق الفردية الطبيعية .
عرض نقيض الاطروحة :وبخلاف
ما سبق ، يرى البعض الاخر ان العدالة لا تعني بالضرورة المساواة ، بل ان
في المساواة ظلم لعدم احترام الاختلافات بين الناس ، ومن هذا المنطلق فإن
العدالة الحقيقة تعني تكريس مبدأ التفاوت ، إذ ليس من العدل ان نساوي بين
اناس متفاوتين طبيعيا . ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فلاسفة قدامى
ومحدثين وايضا بعض العلماء في ميدان علم النفس والبيولوجيا .
الحجة :-فأفلاطون
قديما قسم المجتمع الى ثلاث طبقات : طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة
العبيد ، وهي طبقات تقابل مستويات النفس الانسانية : النفس العاقلة
والغضبية والشهوانية ، وهذا التقسيم يرجع الى الاختلاف بين الافراد في
القدرات والمعرفة والفضيلة ، وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ،
ومن واجب الدولة ان تراعي هذه الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد .
- اما ارسطو فاعتبر التفاوت قانون الطبيعة ، حيث
ان الناس متفاوتين بطبيعتهم ومختلفين في قدراتهم وفي ارادة العمل وقيمة
الجهد المبذول ، وهذا كله يستلزم التفاوت في الاستحقاق ؛ فلا يجب ان يحصل
اناس متساوون على حصص غير متساوية ، او يحصل اناس غير متساويين على حصص
متساوية .
- وحديثا يؤكد ( هيجل 1770 – 1831 ) على مبدأ
التفاوت بين الامم ، وان الامة القوية هي التي يحق لها امتلاك كل الحقوق
وتسيطر على العالم ، على اساس انها افضل الامم ، وعلى الامم الاخرى واجب ،
هو الخضوع للامة القوية.
- وفي نفس الاتجاه ، يذهب ( نيتشه 1844 – 1900 )
ان التفاوت بين الافراد قائم ولا يمكن انكاره ، فيقسم المجتمع الى طبقتين :
طبقة الاسياد وطبقة العبيد ، وان للسادة اخلاقهم وحقوقهم ، وللعبيد
اخلاقهم وواجباتهم .
- أما انصار المذهب الرأسمالي فيقيمون العدل على
اساس التفاوت ، فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ، إذ لا يجب مساواة
الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ، ولا العامل المجد البارع
بالعامل الكسول الخامل ، بل لابد من الاعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه ، لأن
ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين المتفاوتين .
- ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله واجب ، غير
ان قدرة الافراد في رد الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجالات عدة : فمن
الناحية البيولوجية ، هناك اختلاف بين الناس في بنياتهم البيولوجية
والجسمانية ، مما ينتج عنه اختلاف قدرتهم على العمل ورد الواجب ، لذلك فليس
من العدل مساواتهم في الحقوق ، بل يجب ان نساعد أولئك الذين يملكون افضل
الاعضاء والعقول على الارتقاء اجتماعيا ، يقول الطبيب الفيزيولوجي الفرنسي (
ألكسيس كاريل 1873 – 1944 ) : « بدلا من ان نحاول تحقيق المساواة بين
اللامساواة العضوية والعقلية ، يجب توسيع دائرة هذه الاختلافات وننشئ رجالا
عظماء » . ومن الناحية النفسية ، نجد تمايز بين الافراد من حيث مواهبهم
وذكائهم وكل القدرات العقلية الاخرى ، ومن العبث ان نحاول مساواة هؤلاء
المتفاوتون طبيعيا .
واخيرا ومن الناحية الاجتماعية ، فالناس ليسوا
سواء ، فهناك الغني الذي يملك والفقير الذي لا يملك ، والملكية حق طبيعي
للفرد ، وليس من العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها آخرين بدعوى المساواة .
النقد :ان
التفاوت الطبيعي بين الافراد امر مؤكد ولا جدال فيه ، غير انه لا ينبغي ان
يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري . كما قد يكون الاختلاف
في الاستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية لا طبيعية فيظهر تفاوت لا تحترم فيه
الفروق الفردية .
التركيب :ان
المساواة المطلقة مستحيلة ، والتفاوت الاجتماعي لا شك انه ظلم ، وعلى
المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو نسبيا من العدالة ، ولا يكون ذلك
الا بتوفير شروط ذلك ، ولعل من أهمها اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين
الكفاءة والاستحقاق ومحاربة الاستغلال .
حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها وحديثها الى تجسيدها ، ويبقى
التناقض قائما حول الاساس الذي تبنى عليه العدالة ، غير ان المساواة – رغم
صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى تحقيق هذه العدالة كقيمة
اخلاقية عليا .
المقالة العاشرة :هل يمكن إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية ؟ جدلية .
I- طرح المشكلة :إن
الدولة وجدت لإجل غايات ذات طابع أخلاقي ، مما يفرض أن تكون الممارسة
السياسية أيضا أخلاقية ، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك تماماً ، سواء تعلق
الامر بالممارسة السياسية على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العلاقات
بين الدول ، حيث يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق .. وكأن العمل
السياسي لا ينجح إلا إذا أُبعدت القيم الاخلاقية ؛ فهل فعلا يمكن إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية من العمل السياسي ؟
- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة:يرى
بعض المفكرين ، أن لاعلاقة بين الاخلاق والسياسة ، لذلك يجب إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية تماماً من العمل السياسي ، وهو ما يذهب إليه صراحة
المفكر الايطالي " ميكيافيلي 1469 –1527 " في كتابه " الامير " ، حيث يرى
أن مبدأ العمل السياسي هو : « الغاية تبرر الوسيلة » ، فنجاح العمل السياسي
هو ما يحققه من نتائج ناجحة كإستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح
الحيوية .. بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت لاأخلاقية ،
بل ويذهب الى أبعد من ذلك ، فيزعم أن الاخلاق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها ،
وان الدول التي تبني سياستها على الاخلاق تنهار بسرعة.
ويوافقه في ذلك أيضاً فيلسوف القوة " نيتشه 1844
–1900 " ، الذي يرى أن السياسة لا تتفق مع الاخلاق في شيئ ، والحاكم المقيد
بالاخلاق ليس بسياسي بارع ، وهو لذلك غير راسخ على عرشه ، فيجب على طالب
الحكم من الالتجاء الى المكر والخداع والرياء ، فالفضائل الانسانية العظيمة
من الاخلاص والامانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في السياسة . وعلى الحاكم
أن يكون قوياً ، لأن الاخلاق هي سلاح الضعفاء ومن صنعهم .
1-ب - الحجة:وما
يبرر ذلك أن المحكوم إنسان ، والانسان شرير بطبعه ، يميل الى السيطرة
والاستغلال والتمرد وعدم الخضوع الى السلطة المنظمة ، ولو ترك على حاله
لعاد المجتمع الى حالته الطبيعية ، فتسود الفوضى والظلم واستغلال القوي
للضعيف ، ويلزم عن ذلك استعمال القوة وجميع الوسائل لردع ذلك الشر حفاظا
على استقرار الدولة ويقائها .
ومن جهة ثانية ، فالعلاقات السياسية بين الدول
تحكمها المصالح الحيوية الاستراتيجية ، فتجد الدولة نفسها بين خيارين : إما
تعمل على تحقيق مصالحها بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقية ، وإما تراعي
الاخلاق التي قد لا تتفق مع مصالحها ، فتفقدها ويكون مصيرها الضعف
والانهيار .
1جـ - النقد :ولكن
القول أن الانسان شرير بطبعه مجرد زعم وإفتراض وهمي ليس له أي أساس من
الصحة ؛ فالانسان مثلما يحمل الاستعداد للشر يحمل أيضا الاستعداد للخير ،
ووظيفة الدولة تنمية جوانب الخير فيه ، أما لجوئها الى القوة فدليل على
عجزها عن القيام بوظيفتها ، والا فلا فرق بين الدولة كمجتمع سياسي منظم
والمجتمع الطبيعي حيث يسود منطق الظلم والقوة .
هذا ، واستقراء ميكيافيلي للتاريخ إستقراء ناقص ،
مما لا يسمح بتعميم أحكامه ، فهو يؤكد – من التاريخ – زوال الدول التي
بنيت على اسس أخلاقية ، غير أن التاريخ نفسه يكشف ان الممارسة السياسية في
عهد الخلفاء الراشدين كانت قائمة على اساس من الاخلاق ، والعلاقة بين
الخليفة والرعية كانت تسودها المحبة والاخوة والنصيحة ، مما أدى الى ازدهار
الدولة لا إنهيارها .
وأخيراً ، فالقوة أمر نسبي ، فالقوي اليوم ضعيف
غداً ، والواقع أثبت أن الدول والسياسات التي قامت على القوة كان مصيرها
الزوال ، كما هو الحال بالنسبة للانظمة الاستبدادية الديكتاتورية .
2-أ-عرض نقيض الاطروحة :
وخلافا لما سلف ، يعتقد البعض الاخر أنه من الضروري مراعاة القيم
الاخلاقية في الممارسة السياسية ، سواء تعلق الامر بالعلاقة التي تربط
الحاكم والمحكومين على مستوى الدولة الواحدة ، أو على مستوى العلاقات بين
الدول . ومعنى ذلك ، أن على السياسي أن يستبعد كل الوسائل اللااخلاقية من
العمل السياسي ، وأن يسعى الى تحقيق العدالة والامن وضمان حقوق الانسان
الطبيعية والاجتماعية . وهذا ما دعا إليه أغلب الفلاسفة منذ القديم ، فهذا "
أرسطو " يعتبر السياسة فرعاً من الاخلاق ، ويرى أن وظيفة الدولة الاساسية
هي نشر الفضيلة وتعليم المواطن الاخلاق . ثم حديثا الفيلسوف الالماني "
كانط 1724 –1804 " ، الذي يدعو الى معاملة الانسان كغاية في ذاته وليس
كمجرد وسيلة ، كما دعا في كتابه " مشروع السلام الدائم " الى إنشاء هيئة
دولية تعمل على نشر السلام وفك النزاعات بطرق سلمية وتغليب الاخلاق في
السياسة ، وهو ما تجسد – لاحقا – في عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ،
كما دعا الى ضرورة قيام نظام دولي يقوم على الديمقراطية والتسامح والعدل
والمساواة بين الشعوب والامم . ومن بعده ألـحّ فلاسفة معاصرون على أخلاقية
الممارسة السياسية ، أبرزهم الفرنسي " هنري برغسون 1856 – 1941 " و
الانجليزي " برتراند رسل 1871 –1969 " .
2-ب-الحجة: إن
الدولة خصوصاً والسياسة عموما ً إنما وجدتا لأجل تحقيق غايات أخلاقية
منعدمة في المجتمع الطبيعي ، وعليه فأخلاقية الغاية تفرض أخلاقية الوسيلة .
كما أن ارتباط السياسة بالاخلاق يسمح بالتطور والازدهار نتيجة بروز الثقة
بين الحكام والمحكومين ، فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى الافراد في العمل
.
ثم ان غياب الاخلاق وابتعادها من المجال السياسي
يوّلد انعدام الثقة والثورات على المستوى الداخلي ، أما على المستوى
الخارجي فيؤدي الى الحروب ، مع ما فيها من ضرر على الامن والاستقرار وإهدار
لحقوق الانسان الطبيعية ، وهذا كله يجعل الدولة تتحول الى أداة قمع وسيطرة
واستغلال .
2-جـ النقد :لا
يمكن إنكار أهمية دعوة الفلاسفة الى أخلاقية الممارسة السياسية ، إلا ان
ذلك يبقـى مجرد دعوة نظرية فقط ، فالقيم الاخلاقية وحدها – كقيم معنوية –
لا تكفي لتجعل التظيم السياسي قوياً قادراً على فرض وجوده وفرض احترام
القانون ، ولا هي تستطيع ايضاً ضمان بقاء الدولة واستمرارها ، وهو الامر
الذي يؤكد صعوبة تجسيد القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية .
3-التركيب :وفي
الواقع أنه لا يمكن الفصل بين الاخلاق والسياسة ، لذلك فغاية الممارسة
السياسية يجب أن تهدف الى تجسيد القيم الاخلاقية وترقية المواطن والحفاظ
على حقوقه الاساسية ، دون إهمال تحقيق المصالح المشروعة التي هي اساس بقاء
الدولة وازدهارها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح ، أنه لا يمكن إطلاقا إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية
رغم صعوبة تجسيدها في الواقع . ومن جهة أخرى ، فالاخلاق بدون قوة ضعف ،
والقوة بدون أخلاق ذريعة للتعسف ومبررللظلم . وعليه فالسياسي الناجح هو
الذي يتخذ من القوة وسيلة لتجسيد القيم الاخلاقية وأخلاقية الممارسة
السياسية .
المقالة الحادية عشر (تصميم جزئي )
الموضوع الثامن:إذا
كانت التجربة لا تعطينا عدداً خالصاً مجرداً ولا خطاً دون عرض ولا سطحاً
دون سمك ، فهل يعني ذلك أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة
الحسية ؟
I- طرح المشكلة :هل المفاهيم الرياضية أصلها عقلي أم تجريبي ؟
II- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة :يرى أصار النزعة العقلية المثالية أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة الحسية ، بل هي مفاهيم عقلية خالصة .
1-ب- الحجة :-
لأن المفاهيم الرياضية مفاهيم مجردة أنشأها العقل و استنبطها من مبادئه
الاساسية ( الهوية ، عدم التناقض ، الثالث المرفوع ) من دون الحاجة الى
الرجوع الى الواقع الحسي .
- ان التجربة لا تعطينا عدداً خالصاً مجرداً ولا
خطاً دون عرض ولا سطحاً دون سمك ، مما يعني ان المفاهيم الرياضية نابعة من
العقل وموجودة فيه بصورة قبلية .
- المفاهيم الرياضية هي حقائق معقولة وهي مفاهيم
ازلية وثابتة ، والعقل كان يدركها في عالم المثل ، ولكن عند مفارقته لهذا
العالم نسيها ، وما عليه الا تذكرها ( افلاطون ) .
- ان المفاهيم الرياضية هي مفاهيم فطرية تتميز
بالبساطة والبداهة واليقين ، وبما ان العقل قاسم مشترك بين جميع الناس ،
فإن الناس جميعهم بإمكانهم ادراك هذه المفاهيم ( ديكارت ) .
1-جـ- النقد :إن
الطفل الصغير يمزج بين العدد والشيئ المعدود . وتاريخ الرياضيات يقدم لنا
الشواهد على ان العمل الرياضي بدأ حسيا ، وتدرج شيئا فشيئا نحو التجريد
بإدخال الصفر والعدد السالب والعدد الكسري ... ثم لو كانت المفاهيم
الرياضية فطرية لتساوى في العلم بها الجميع ، لكنها مفاهيم لا يدركها الا
القلة القليلة من المتخصصين .
2-أ- عرض الاطروحة :يؤكد أنصار النزعة الحسية التجريبية ان المفاهيم الرياضية مثل سائر معارفنا مستمدة من التجربة الحسية .
2-ب- الحجة :مجموعة
من الاشجار اوحت بفكرة العدد ، وان بعض الاشياء الطبيعية اوحت بالاشكال
الهندسية ، فشكل الشمس مثلا اوحى بفكرة الدائرة ، وان الانسان في اقدم
العصور استعان في العدّ بالحصى والاصابع .. ثم ان تجربة مسح الاراضي عند
قدماء المصريين هي التي ادت الى نشوء علم الهندسة . وان الهندسة اسبق ظهورا
من الحساب او الجبر لأنها اقرب الى التجربة .
2-جـ- النقد :ان
المفاهيم الرياضية ليست كما اعتقد التجريبيون مستمدة من التجربة الحسية ،
فهذه الاخيرة لم تكن الاحافزا للعقل على تجريد المعاني الرياضية .
3- التركيب :في
الحقيقة ان هناك تلازم بين العقل والتجربة ، فلا وجود لمعرفة عقلية خالصة
ولا لمعرفة تجريبية خالصة . وعلى هذا الاساس ، فإنه من المنطق القول ان اصل
الرياضيات يعود الى التجربة الحسية ، فهي قبل ان تصبح علما عقليا قطعت
مرحلة كلها تجريبية ، ولكن العقل جرّد تلك المعاني الحسية ، فأصبحت مفاهيم
مجردة .
III- حل المشكلة : إن أصل المفاهيم الرياضية هو التجربة الحسية ، ثم اصبحت مفاهيم مجردة لا علاقة لها بالواقع .
المقالة الثانية عشر:اذا كانت الرياضيات لا تقدم معرفة تجريبية ، ففيم تتمثل قيمتها ؟ اسنقصاء
* تعتبر التجرية مقياس اساسي نحكم به على " علمية
" أي معرفة من المعارف ، ومن المعلوم ان الرياضيات علم عقلي بحت ، مجرد
تماما عن ماهو محسوس ، لذلك فهي لا تقدم أي معرفة تجريبية ، والسؤال الذي
يطرح هنا ؛ فيم تكمن قيمة الرياضيات اذا كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ؟
1-
إن موضوع الرياضيات هو الكميات العقلية المجردة ، التي تتميز بالثبات
والاستقلالية عن الواقع المحسوس ، ولغتها الرموز من ثوابت ومتغيرات ، وليست
ألفاظ اللغة العادية التي تتصف بالغموض والابهام . ومنهجها الاستدلال
العقلي ذو الطبيعة الاستنتاجية – الافتراضية ، يراعي فيه الرياضي عدم تناقض
النتائج مع ما يفترضه من قضايا أولية دون الرجوع الى الواقع الحسي . كما
توصف الرياضيات بالخصوبة نظرا لتعدد فروعها ( كالجبر ، الهندسة ، الهندسة
التحليلية ، نظرية المجموعات ، حساب الاحتمالات .. ) وتعدد انساقها ( كنسق
اقليدس ، نسق لوباتشوفسكي ، نسق ريمان .. ) دون ان يكون هناك تناقضا بين
هذه الفروع والانساق . كما تعود خصوبتها
الى طبيعة البرهان الرياضي ، فهو – بخلاف القياس الارسطي – يتميز بخاصيتيه
التركيبية والتعميمية ، حيث ننتقل فيه من البسيط الى المركب ومن الخاص الى
العام .
2-
ان الرياضيات وان كانت من العلوم التجريدية فهي لغة العلوم التجريبية ،
وتكمن قيمتها في استعانة العلوم التجريبية بها في صياغة نتائجها . حيث ان
العلوم على اختلافها – سواء الطبيعية منها التي تدرس المادة الجامدة او
الحية ، أو الانسانية التي تدرس الانسان ومختلف مواقفه – تسعى الى استخدام
الرياضيات في مباحثها ومناهجها وصياغة نتائجها ..
ولقد كانت الرياضيات حتى القرن 17 م منفصلة عن
العلوم ، وحينئذ تبيّن – كما قال " غاليلي " – أن : « الطبيعة مكتوبة بلغة
رياضية » ، ومادامت الطبيعة – التي هي موضوع العلم – مكتوبة كذلك – فإنه لا
يصلح لفهم العلاقات التي تربط بين ظواهرها الا استعمال لغة الرياضيات ،
التي هي – حسب " بوانكاري " – « اللغة الوحيدة التي يستطيع العاِلم أن
يتكلم بها » .. وهكذا بدأت الرياضيات تغزو العلوم .
فلقد صاغ " غاليلي " قانون سقوط الاجسام صياغة رياضية ( ع = ½ ج x
ز2 ) ، وكذلك فعل " نيوتن في قانون الجاذبية ، لتعرف الفيزياء بعدها
استعمالا واسعا للرياضيات ، كما هو الحال في قوانين السرعة والتسارع و حركة
الاجسام .
هذا ، وقد حسب " كبلر " حركة كوكب المريخ حسابا
رياضيا ، ليعرف علم الفلك – هو الاخر – استعمال لغة الرياضيات ، كحساب حركة
الكواكب والظواهر مثل الكسوف والخسوف والمواقيت ..
إضافة الى ذلك ، فإن الكمياء إبتداءً من "
لافوازييه " أصبحت تعبر عن تفاعل العناصر و عمليات الاكسدة والارجاع في شكل
معادلات رياضية ، كما أصبح العنصر الكميائي يعرف بوزنه الذري ..
والامر نفسه في البيولوجيا ، لاسيما استخدام
الاحصاء الرياضي مثلما فعل " مندل " في قوانين الوراثة . والواقع اليومي
يكشف عن استعمال واسع للرياضيات في البيولوجيا ، وتحديدا في ميدان الطب ،
حيث تكمم دقات القلب وعدد كريات الدم ونسبة السكر ومعدل الضغط ...
ولم يقتصر استعمال الرياضيات على العلوم الطبيعية
المادية فحسب ، بل تعداه الى العلوم الانسانية ؛ فلقد تمكن علماء النفس
الالمان " فيبر " و " فيخنر " من صياغة قانون رياضي للاحساس هو قانون
العتبة المطلقة والعتبة الفارقة . كما وضع الفرنسي " بيني " مقياسا رياضيا
عاما لدرجة الذكاء ونسبته ، هو العمر العقلي مقسوما على العمر الزمني
مضروبا في 100 . و ذات الامر في الاقتصاد والجغرافيا البشرية ؛ حيث يستعمل
الاحصاء وحساب الاحتمالات والتعبير عن النتائج في شكل معادلات رياضية
ومنحنيات بيانية ودوائر نسبية .
3-
و تكمن قيمة الرياضيات في كونها ساهمت في تطور العلوم ، من مجرد وصف كيفي
للظواهر يعتد على اللغة العادية المبهمة الى تحديد كم دقيق لها ؛ فالعلوم
لم تبلغ الدقة في فهم ظواهرها ومن ثــمّ التنبؤ بها ، الا بعدما صارت تصوغ
نتائجها صياغة رياضية .
هذا من جهة ، ومن جهة فإن الرياضيات تهيئ للعلم
المفاهيم التي يقوم عليها، مثال ذلك ان " نيوتن " اقتبس مفهوم المكان من
المكان الحسي عند " إقليدس " ، ولولا هندسة " ريمان " لما كانت نسبية "
إنشتاين " .
ومن جهة ثالثة ، فإن الرياضيات تسمح باكتشاف
القوانين العلمية دون الحاجة الى المرور بالملاحظة والتجربة ، مثال ذلك أن
حساب العالم " لوفيريي " لكوكب " أورانيوس " أدى الى اكتشاف كوكب " نيبتون
" ، كما وصل العالم " ماكسويل " الى اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية ووضع
لها أربع معادلات رياضية أحاطت بخواصها من حسابات رياضية خالصة ، ولم يتحقق
منها العلماء تجريبيا الا بعد مرور ثمانين – 80 – سنة .
* وهكذا يتضح ، أن للرياضيات قيمة كبرى باعتبارها
لغة العلوم الحديثة ، فهي وإن كانت لا تقدم أي معرفة تجريبية ، فإنها
اللغة التي تستخدمها هذه العلوم في التعبير عن نتائجها . فالرياضيات تمثل
نموذجا للوضوح ومعيارا للدقة واليقين وطريقا للابداع ، وهو ما يهدف كل علم
الى بلوغه .
الموضوع الثالثة عشر :هل يمكن اخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي على غرار المادة الجامدة ؟ جدلية
I- طرح المشكلة :تختلف
المادة الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة ، الامر الذي جعل البعض
يؤمن ان تطبيق خطوات المنهج التجربيي عليها بنفس الكيفية المطبقة في المادة
الجامدة متعذرا ، و يعتقد آخرون ان المادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها
مما يسمح بامكانية اخضاعها للدراسة التجريبية ، فهل يمكن فعلا تطبيق
المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة الجامدة ؟
II– محاولة حل المشكلة :
1- أ- الاطروحة :يرى
البعض ، أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجرببي على الظواهر الحية بنفس
الكيفية التي يتم فيها تطبيقه على المادة الجامدة ، إذ تعترض ذلك جملة من
الصعوبات و العوائق ، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو المادة
الحية ، و بعضها الاخر الى يتعلق بتطبيق خطوات المنج التجريبي عليها .
1-ب- الحجة :و
يؤكد ذلك ، أن المادة الحية – مقارنة بالمادة الجامدة – شديدة التعقيد
نظرا للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل
للمحافظة على النوع و الاستمرار في البقاء . ثم إن المحافظة على توازن
الجسم الحي يكون عن طريقالتغذية التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي
يحتاجها الجسم . كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل التي هي مراحل
النمو ، فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب للمرحلة اللاحقة .
هذا ، و تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال
الوظيفة التي تؤديها ، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة
من الاعضاء ، مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و اذا اختل العضو تعطلت
الوظيفة و لا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها . و تتميز الكائنات الحية – ايضا –
بـالوحدة العضوية التي تعني ان الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته
الا في اطار هذا الكل ، و سبب ذلك يعود الى أن جميع الكائنات الحية –
باستثناء الفيروسات – تتكون من خلايا .
بالاضافة الى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع ،
هناك صعوبات تتعلق بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ،
و أول عائق يصادفنا على مستوى المنهج هو عائقالملاحظة
؛ فمن شروط الملاحظة العلمية الدقة و الشمولية و متابعة الظاهرة في جميع
شروطها و ظروفها و مراحلها ، لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية ،
فلأنها حية فإنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل و
تكامل و ترابط الاجزاء العضوية الحية فيما بينها ، مما يحول دون ملاحظتها
ملاحظة علمية ، خاصة عند حركتها أو اثناء قيامها بوظيفتها . كما لا يمكن
ملاحظة العضو معزولا ، فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة
العلمية ، ثم ان عزل العضو قد يؤدي الى موته ، يقول أحد الفيزيولوجيين
الفرنسيين : « إن سائر اجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ، فهي لا تتحرك
الا بمقدار ما تتحرك كلها معا ، و الرغبة في فصل جزء منها معناه نقلها من
نظام الاحياء الى نظام الاموات ».
و دائما على مستوى المنهج ، هناك عائق التجريب
الذي يطرح مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة
الفرق بين الوسطين الطبيعي و الاصطناعي ؛ فالكائن الحي في المخبر ليس كما
هو في حالته الطبيعية ، إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي الى شروط اصطناعية
يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن .
ومعلوم ان التجريب في المادة الجامدة يقتضي تكرار
الظاهرة في المختبر للتأكد من صحة الملاحظات و الفرضيات ، و اذا كان
الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع و تكرار الظاهرة وقت ما شاء ،
ففي المادة الحية يتعذر تكرار التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما الى نفس
النتيجة ، مثال ذلك ان حقن فأر بـ1سم3 من المصل لا يؤثر فيه في المرة
الاولى ، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ، و الثالثة تؤدي الى موته ،
مما يعني أن نفس الاسباب لا تؤدي الى نفس النتائج في البيولوجيا ، و هو ما
يلزم عنه عدم امكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ، علما
ان التجريب و تكراره يستند الى هذا المبدأ .
و بشكل عام ، فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ، ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة .
و من العوائق كذلك ، عائق التصنيف و التعميم ؛
فإذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو
فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين أصناف الظواهر داخل كل صنف ، فإن التصنيف
في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن
غيره ، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشوّه طبيعة الموضوع مما
يؤثر سلبا على نتائج البحث .
وهذا بدوره يحول دون تعميم النتائج على جميع
افراد الجنس الواحد ، بحيث ان الكائن الحي لا يكون هو هو مع الانواع الاخرى
من الكائنات ، ويعود ذلك الى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي .
1-جـ- النقد :لكن
هذه مجرد عوائق تاريخية لازمت البيولوجيا عند بداياتها و محاولتها الظهور
كعلم يضاهي العلوم المادية الاخرى بعد انفصالها عن الفلسفة ، كما ان هذه
العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم الاخرى التي لها علاقة
بالبيولوجيا خاصة علم الكمياء .. و سرعان ما تــمّ تجاوزها .
2-أ- نقيض الاطروحة :وخلافا
لما سبق ، يعتقد البعض أنه يمكن اخضاع المادة الحية الى المنهج التجريبي ،
فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات ، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين
الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة
الجامدة . ويعود الفضل في ادخال المنهج التجريبي في البيولوجيا الى العالم
الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت
المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي .
2-ب- الادلة :و
ما يثبت ذلك ، أنه مادامت المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة
كالاوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الازوت و الكالسيوم و الفسفور ...
فإنه يمكن دراسة المادة الحية تماما مثل المادة الجامدة .
هذا على مستوى طبيعة الموضوع ، اما على مستوى
المنهج فقد صار من الممكن القيام بالملاحظة الدقيقة على العضوية دون الحاجة
الى فصل الاعضاء عن بعضها ، أي ملاحظة العضوية وهي تقوم بوظيفتها ، و ذلك
بفضل ابتكار وسائل الملاحظة كالمجهر الالكتروني و الاشعة و المنظار ...
كما اصبح على مستوى التجريب القيام بالتجربة دون
الحاجة الى ابطال وظيفة العضو أو فصله ، و حتى و إن تــمّ فصل العضو الحي
فيمكن بقائه حيا مدة من الزمن بعد وضعه في محاليل كميائية خاصة .
2-جـ- النقد :ولكن
لو كانت المادة الحية كالجامدة لأمكن دراستها دراسة علمية على غرار المادة
الجامدة ، غير ان ذلك تصادفه جملة من العوائق و الصعوبات تكشف عن الطبيعة
المعقدة للمادة الحية . كما انه اذا كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا
حتميا و آليا ، فإن للغائية إعتبار و أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ،
مع ما تحمله الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية
علاقة بها .
3- التركيب :و
بذلك يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها دراسة العلمية ، لكن مع
مراعاة طبيعتها وخصوصياتها التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة ، بحيث بحيث
يمكن للبيولوجيا ان تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية الاخرى مع
الاحتفاظ بطبيعتها الخاصة ، يقول كلود بيرنار : « لابد لعلم البيولوجيا أن
يأخذ من الفيزياء و الكمياء المنهج التجريبي ، مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة و
قوانينه الخاصة ».
III- حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى المنهج خاصة ، يعود
اساسا الى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ، والى كون
البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ، و يمكنه تجاوز تلك العقبات
التي تعترضه تدريجيا .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى