سلسلة مقالات فلسفية لأحباب الحكمة
إعداد وتقديم :الأستاذ محمد دلسي
وزارة التربية الوطنية
متقنة الرائد نحناح الرغاية
تحليل مقالة فلسفية جدلية:
السؤال:هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي؟
يقول نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام (من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما فعليه بالعلم).
يقول الشاعر:
ومن أراد العلى عفوا بلا تعب قضى ولم يقضي من إدراكها وطرا
لقد أحدث المنهج التجريبي الحديث ثورة جذرية في ميدان الدراسة العلمية تجلت بوضوح فيما حققه العلم من تطورات مذهلة ومتسارعة وإذا كانت هذه القيمة موضع إنفاق بين كل الفلاسفة والعلماء على حد سواء فإن مراحل تجسيده إجرائيا لم تكن كذلك بل بالعكس عرفت تناقض جدلي حيث رأى البعض أنه يمكن الاستغناء عن الفرض بدعوى تخيلاته الذاتية المسبقة في حين رأى البعض الآخر من العقلانيين أن الفرضية خطوة منهجية ضرورية في البحث العلمي شأنها شأن الملاحظة والتجربة وأمام هذا الاختلاف نتساءل نحن هل يمكن الاستغناء عن الفرضية؟
يرى التجريبيون أمثال جون ستيوارت ميل وماجندي و ألان أنه يمكن استبعاد الفرض من التجريب العلمي باعتبار أنه يقوم على التكهن والظن والعلم أسمى من ذلك.
فالفرضية هي افتراض مسبق سابقة زمنيا عن التجربة ومن هنا تبدو سلبياتها من حيث أنها توجه عملية التجربة قهرا نحو تلك النتيجة المتخيلة من قبل وهنا تظهر الذاتية كعائق إبستيمولوجي أمام البحث العلمي الموضوعي المتحرر من أهواء الباحث وأرائه الشخصية الأولية لذلك قال ماجندي لتلميذه كلود برنارد "أترك عباءتك وخيالك عند باب المخبر" حيث يؤكد أن الفرضية تقيد الملاحظة فيصبح العالم أسير أوهامه وتخيلاته اللامتناهية وهو ما ينعكس سلبا على التجربة ويحول دون إدراك الحقيقة العلمية ويشوه صورتها الصادقة وهو ما أقره ألان عندما قال " إننا لا نلاحظ إلا ما افترضناه من قبل" وفي سبيل تجاوز تلك العوائق يكتفي ماجندي بالملاحظة فقط فيختزل مراحل المنهج التجريبي إلى الملاحظة والتجربة والفانون حيث نجده يقول" إن الملاحظة الجيدة تغنينا عن سائر الفروض " ومن أجل تمكين الباحث من هذا الانتقال المباشر من الملاحظة إلى التجربة يقترح بيكون طرق استقرائية تضمن اليقين دون الحاجة إلى وضع الفروض ثم جاء بعده حون ستيوارت ميل فنظم تلك الطرق وأخرجها في أ{بع صياغات وقواعد أساسية طريقة التلازم في الحضور أي تلازم العلة والمعلول في الوجود دائما فإذا وجدت العلة وجد معها المغلول بالضرورة لكن التلازم في الحضور لا يدل دلالة قاطعة على أن إحدى الظاهرتين علة للأخرى إذ قد يكون الاثنان نتيجة لظاهرة ثالثة ما تزال خفية لذلك وضع "ميل"طريقة التلازم في الغياب والتي هي عملية سلبية للتلازم في الحضور أي كلما غابت العلة غاب المعلول بالضرورة ثم يضيف طريقة التلازم في التغير والتي تعني أن كل تغير في العلة ينتج عنه بالضرورة تغير في المعلول وأخيرا طريقة البواقي التي تفيد أن لكل ظاهرة علة ولا يمكن أن تكون علة واحدة لظاهرتين مختلفتين وكل هذه الطرق السالفة تغنينا حسب ميل عن وضع الفروض وتستبعد الأحكام والتصورات والمعتقدات المسبقة التي يحملها العقل كمعطيات أولية مقترضة فيكتفي باستنطاق الطبيعة دون أي تدخل للذاتية التي تفرضها الفرضية وقد وافق هذا الموقف العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن عندما قال "أنا لا أصطنع الفروض"
لكن ورغم كل تلك السلبيات التي شخصها الموقف التجريبي فإن الفرضية تبقى خطوة ضرورية في المنهج التجريبي لأن كون وجود تلك السلبيات لا يعني ضرورة التخلي عن الفرضية بقدر ما يستوجب العمل على تجاوزها وتصحيحها وهو ما يقره المنهج التجريبي المعاصر الذي اعتمد الفرضية كخطوة ضرورية وثابتة في العمل التجريبي لكن مع تطوير مفهومها وشروطها حتى تتوافق مع الروح العلمية الموضوعية.
وبخلاف الموقف الأول يرى العقلانيين كبوان كاري وكلود برنارد أن الفرضية خطوة منهجية ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها في البحث التجريبي.
حيث نجد كلود برنارد يقرر بأن الفرض العلمي هو المنطلق الضروري لكل استدلال تجريبي فلو لا الفروض لما استطاع العالم أن يجرب وهو ما قصده حين قال" إن الملاحظة توحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها والتجربة تحكم بدورها على الفكرة" ومنه فغياب الفكرة والتي هي الفرضية يؤدي إلى غياب التجربة وهنا بالذات تبرز قيمة الفرضية من حيث أن الباحث يستوحي صورة التجربة و إعادة تكرار الظاهرة اصطناعيا من الفرضية و بتالي فلا مجال للاستغناء عنها لأن ذلك يؤدي ضرورة إلى الجهل بالتجربة والتي تعد عماد المنهج التجريبي كما يقول برنارد"إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنطلع على طبيعة الأشياء " ويوافقه في هذا الطرح العالم الرياضي المعاصر بوان كاري حيث قال "إن الملاحظة والتجربة لا تكفيان لإنشاء العلم ومن يقصر عليهما يجهل صفة العلم " فالواقعة الطبيعية حسب العقلانيين خرساء ليست هي التي تهب الفكر بل العقل و الخيال فالعلة تكون في بداية البحث خفية وعلى الباحث أن يتخيلها ويفترضها ثم بعدها يمتحنها بالتجريب فمثلا "توريشلي" لم يلحظ ظاهرتين متلازمتين في الحضور كما يدعي "ميل" هما الضغط الجوي وعدم ارتفاع الماء أكثر من 10.22م بل الظاهرة التي كانت واقعة تحت الملاحظة إنما هي ارتفاع الماء فقط أما الضغط الجوي فلم يكن ملحوظا من معطيات التجربة بل كان أمرا يتطلبه التفسير لذلك عمد الباحث إلى افتراضه ولولا هذا الافتراض الذي هو عمل عقلي بحت يستعين به الباحث على اكتشاف أسرار الطبيعة لما تقدم خطوة واحدة إلى الأمام في تفسير الظواهر والكشف عن عللها،وبالإضافة إلى كل هذا فإننا نجد العالم العربي المسلم ابن الهيثم يسبق كل هؤلاء المفكرين إلى الإقرار بقيمة الفرضية عندما يقول"إني لا أصل إلى الحق إلا من أراء تكون عناصرها أمور حسية وصورتها عقلية"
إن الواقع العلمي يقر رغم قيمة الفرضية بوجود العديد من السلبيات التي تنجر عن التأويل المسبق للظاهرة العلمية وما يفرضه من حدود الذاتية الضيقة التي تحاصرها أوهام الباحث ومعتقداته الأولية والتي من شأنها أن تسير التجربة قهرا نحو نتيجة مفترضة من قبل وهو ما يحول دون البحث العلمي الموضوعي المتحرر من الآراء الشخصية
إن كلى الموقفين يمثل توجه دوغماتي أحادي حيث نجد أن أحدهما اكتفى بإبراز سلبيات الفرضية دن أدنى إشارة إلى فائدتها بمقابل موقف آخر بقي عند حدود أبراز إجابتيها وفائدتها دون أي توضيح لسلبياتها ومهما يكن فإن الفرضية ورغم مالها من مزايا ومساوئ إلا أنها تبقى ضرورة منهجية في البحث العلمي المعاصر وهو ما أكدته الروح العلمية المعاصرة كل هذا يؤدي بنا إلى تغليب الموقف الثاني وتبنيه رغم أنه يجب الإقرار أؤلا أن للفرضية سلبيات محتملة لكنها لا تؤدي أبدا إلى إلغائها والاستغناء عنها كما زعم التجريبيين ويمكن تفسير المغالطة التي وقعوا فيها بقول برنارد "أن الذين أدانوا استخدام الفروض أخطئوا بخلطهم بين اختراع التجربة ومعاينة نتائجها " وعلى هذا يمكن القول أنه يجب معاينة التجربة بروح علمية مجردة من الفروض ولكن لابد من الفرض عندما يتعلق الأمر بتأسيس التجربة بل على العكس هنا لابد أن نترك العنان لخيالنا
ومن التحليل السابق نستنتج أن الفرض العلمي هو المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبيتها وحركيتها سواء ثبتت صحته أم لم تثبت لأن الفرض الخاطئ سيساعد على توجيه الذهن إلى فرض خاطئ وهكذا ومع المحاولة والخطأ سيصل الباحث لامحا لألئ الفرض الصحيح، ويبقى بين هذا وذاك التأكيد على قيمة المنهج التجريبي الحديث الذي افتتحه فرنسيس بيكون من خلال أرغانونه الجديد ثم طوره من بعده "ميل" وغيره من العلماء المعاصرين والدليل هو تلك الثورة العلمية الجذرية التي شهدها العلم المعاصر بفضل تطبيقه للمنهج التجريبي
منقووووول للافادة
- الاستاذة المستقبليةعضو فعال
- الجنس : عدد المساهمات : 567 نقاط التميز : 732 تقييم العضو : 14 التسجيل : 16/02/2010 العمر : 31 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الإثنين ديسمبر 20, 2010 12:45 am
- بوكعضو مطرود
- الجنس : عدد المساهمات : 9166 نقاط التميز : 10738 تقييم العضو : 181 التسجيل : 02/05/2010 الإقامة : *في المنتدى*
تمت المشاركة الإثنين ديسمبر 20, 2010 12:58 am
بارك الله فيكي اختاه على هدا النقل
الرائع و الهام و المفيد لطلبتنا الكرام
جعله الله في موازين حسناتك اختاه
الرائع و الهام و المفيد لطلبتنا الكرام
جعله الله في موازين حسناتك اختاه
- الاستاذة المستقبليةعضو فعال
- الجنس : عدد المساهمات : 567 نقاط التميز : 732 تقييم العضو : 14 التسجيل : 16/02/2010 العمر : 31 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الإثنين ديسمبر 20, 2010 8:49 pm
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى