إخواني أحباب رسول الله صلى الله
عليه وسلم سأعمل بفضل الله وتوفيق منه سبحانه على نقل مجموعة من القصص
التي جاءت على لسان الصادق الأمين الذي لاينطق عن الهوى سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم بشهادة من رب العزة سبحانه في كتابه العزيز
والنجم إذا هوى(1) ماضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى(5)
صدق الله العظيم
وفضلت أن أعرض القصص على شكل سلسلة بعنوان
القصص النبوي
القصة الأولى:
المرأة التي اتخذت رجلين من خشب
نصّ الحديث
عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(
كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين ، فاتخذت رجلين
من خشب ، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق ، ثم حشته مسكاً - وهو أطيب الطيب - ،
فمرّت بين المرأتين فلم يعرفوها ، فقالت بيدها هكذا - ونفض شعبة يده - ) رواه مسلم .
وفي رواية لأحمد :( فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه ) .
وعند ابن حبان في صحيحه :( فاتخذت لها نعلين من خشب ) .
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(
إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصيغ
ما تكلف امرأة الغني . فذكر امرأة من بني اسرائيل كانت قصيرة ، واتخذت
رجلين من خشب ، وخاتماً له غلق وطبق ، وحشته مسكاً ، وخرجت بين امرأتين
طويلتين أو جسيمتين ، فبعثوا إنساناً يتبعهم ، فعرف الطويلتين ، ولم يعرف
صاحبة الرجلين من خشب ) رواه ابن خزيمة .
معاني المفردات
رجلين من خشب : أي نعلين من الخشب كما جاء في الرواية الأخرى
فقالت بيدها هكذا : يعني حرّكت يديها لتفوح رائحة العطر
خاتماً له غلق وطبق : أي خاتماً محكم الإغلاق وعليه غطاء
جسيمتين : الجسيم : عظيم الجثّة
تفاصيل القصّة
من سنن الله الكونية ألا تبلغ الحضارات الإنسانيّة أوجّ عزّها ، ولا ترتقي
إلى قمّة مجدها ، إلا حين تتّخذ من الأخلاق الفاضلة ، ومعاني العفّة
والطهارة ، سياجاً يحيط بها ، وفي المقابل أيضاً لا ترى التراجع والوهن
يبدأ في أمّة من الأمم إلا حين تنسلخ من القيم والمُثُل العليا ، وتفشو في
أفرادها مظاهر الترف والبذخ ، والبحث عن المظاهر الكاذبة والتصنّع الزائف
، حتى تأتي اللحظة التي تنهار فيها ، وتزول عن الوجود .
والنبي – صلى الله عليه وسلم –
يعرض من خلال القصّة التي بين يدينا ، جانباً من جوانب الفساد الاجتماعي
والافتتان بزخارف الدنيا ، والذي أودى بالمجتمع الإسرائيلي مهاوي الردى ،
وكان سبباً في تسلّط أعدائهم عليهم .
وقد ظهرت بوادر الفساد
الاجتماعي في تلك الأمّة بقوّة من خلال المبالغة في الاهتمام بالمظاهر ،
فكان الإنفاق على الملابس والحلي وأنواع الزينة ومراسم الحفلات على أشدّه
، ولم يكن التسابق المحموم على تلك الأمور محصوراً بالطبقة الغنيّة
القادرة ، بل اكتوى بنارها الفقراء والمعدمين ، سعياً لمجاراة الواقع
الموجود ، ومع مطالب النساء وما جرّه من النفقات الباهظة ، كانت النتيجة
الحتمية الغرق في دوّامة لا تنتهي من الديون والقروض الرّبوية .
أما الصورة الأخصّ التي ذكرها
النبي – صلى الله عليه وسلم – فهي حال امرأة من بني إسرائيل ، تملّكها
الشعور بالحسرة على قصر قامتها ، ورأت في نفسها أنها أقل حظّاً في نيل
إعجاب الرجال ولفت أنظارهم ، وكان الرجال من بني إسرائيل يرون الجمال في
طول المرأة .
وبدلاً من الرضى بقضاء الله
وقدره ، ظلّت تفكّر زماناً طويلاً للبحث عن أفضل الطرق لجذب أنظار الناس
إليها ، حتى اهتدى عقلها إلى حيلة تزيل ما تظنّه عيباً فيها ، فقد صنعت
لها نعلين من الخشب تلبسهما تحت الثياب فيزيد من قامتها ، ويظهرها أمام
الناس طويلة.
وأمام الحيلة التي ابتكرتها ،
تغيّر منظرها الخارجي ، فلم يتعرّف عليها الرجال ، وظنّوا أنها امرأة
غريبة عن الديار ، بل أرسلوا أحدهم ليعلم عن هذا الوافد الجديد – بالنسبة
إليهم – ويتقصّى حقيقتها فلم يفلح .
وبذكائها أيضاً ، اتّخذت
خاتماً من ذهب صنعته خصّيصاً عند أحد الصاغة ، وأمرته أن يجعل فيه تجويفاً
له غطاء لتملأه مسكاً قوي الرائحة ، ثم كانت تذهب إلى مجامع الناس وتحرّك
يدها ذات اليمين وذات الشمال ، فيفوح شذى العطر في أرجاء المكان ليسلب
بعبقه ألباب الرجال وينال استحسانهم لها .
والنبي – صلى الله عليه وسلم –
إذ يعرض هذه القصّة ، يريد من المجتمع الإسلامي أن يحذر من تلك الآفات
ويرفع من تطلّعاته وطموحاته ، ويوجّه تركيزه نحو إصلاح الباطن وتحسين
الأخلاق ، وما قيمة المرء إلا بنبل صفاته ، وجميل أفعاله ، وبياض صفحته ،
كما جاء تقرير ذلك في قوله – صلى الله عليه وسلم -:( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم .
ونلمح أيضاً في ثنايا القصّة
تحذير النبي – صلى الله عليه وسلم – من فتنة النساء ، وتفنّنهنّ في طرق
الغواية والإضلال ، في ظلّ انتكاسة أخلاقيّة تنبيء بذوبان العفّة وقلّة
المروءة ، وذهاب الغيرة من قلوب الرجال ، وما يؤدّيه من الفساد العظيم ،
والشرّ المستطير .
وكان الإشفاق من خطر هذه الفتنة هو ما أشغل بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يحذّر أمته من فتنة النساء ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( اتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه أحمد .
ومن هنا ، حرص الإسلام من خلال
تعاليمه ومبادئه أن يحمي أفراده من بواعث الفتنة وأسبابها ، فنهى النساء
عن مظاهر التبرّج والزينة ، ومنع من الاختلاط والخلوة المحرّمة ، ورتّب
الوعيد الشديد على من خرجت من بيتها متعطّرة حتى ولو كانت ذاهبة إلى
المسجد ، وبهذا الموقف الحازم والصارم ، يمكن للمجتمع المسلم أن يعيش في
ظلٍّ من العلاقات الطاهرة ، والقائمة على أساسٍ من التقوى والصلاح ،
والمراقبة الذاتيّة ، والله الموفّق.
__________________
[center]