ليوم السادس عشر
عمل اليوم :عمل مائدة افطار للفقراء والمساكين في البيت او المسجد او لاحد من لاقارب مع استحضار نية صلة الرحم والاحسان
درس اليوم : نعم ونقم والحافظ هو الله (سورة ابراهيم والحجر والنحل )
سوة ابراهيم
هدف السورة: نعمة الإيمان ونقمة الكفر
كثير من الناس إذا سئل: ما
هي أعظم نعم الله عليك؟ سيجيب بالأمور المادية (الزوجة أو الأولاد أو
البيت أو المال)، وإذا سئل بالمقابل عن أعظم مصيبة، سيذكر المشاكل
الدنيوية وخسارة المال وضياع التجارة... فتأتي سورة إبراهيم لتصحّح هذا
المفهوم وتوضح أن أعظم نعمة في الوجود هي نعمة الإيمان وأن أسوأ نعمة هي
نعمة الكفر والبعد عن الله تعالى...
هل تستوي الظلمات والنور...
لذلك فإن السورة هي عبارة عن
مقابلة مستمرة بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بين النور
والظلمات.. وبدايتها واضحة في هذا المعنى: ]الر
كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ
إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ[ (1) وكأن المعنى: أيّها الإنسان أنظر إلى الظلمات والنور، وتأمّل نعمة الله تعالى واختر بينهما..
وجهان ليوم واحد
وتؤكد الآية الخامسة على نفس المعنى في قصة موسى عليه السلام: ]وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱلله إِنَّ فِى
ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[
(5) فما علاقة أيام الله بالصبر والشكر؟ إن أيام الله هي الأيام التي أهلك
الله فيها الظالمين في كل قوم من الأقوام ونجّى فيها الصالحين، فكانت نعمة
على المؤمنين ونقمةً على الكافرين. والمؤمن يتخذ من تلك الأيام عبرة تعينه
على الصبر وتحمل الأذى كما تحثّه على الشكر على نعمة الإيمان ]إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[.
فمضى سيدنا موسى ليبلغ رسالة ربه كما أمر وليذكّرهم بأعظم نعم الله عليهم:
]وَإِذْ
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ
وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذٰلِكُمْ
بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ[ (6).
طريق الله نعمة وعزة، والبديل لا يكون إلا صغاراً وذلاً في الدنيا، كما بينت الآية على لسان سيدنا موسى. (لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ) ثم تأتي قاعدة عامة ووعد رباني لكل من يشكر نعم الله ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ[ (7).
ومع أن الآية تنطبق على كل
نعم الله، لكن ورودها في وسط الآيات التي تتحدث عن نعمة الإيمان، يشير إلى
أهمية شكر نعمة الإيمان بشكل خاص، حتى يزيدنا الله من هذه النعمة، وإلا
فإن الله غني عن العالمين: ]وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱلله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ[ (.
رسالة الأنبياء
وتبدأ الآيات بعد ذلك في
الكلام على المواجهة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ولأن موضوع السورة هو
نعمة الإيمان ونقمة الكفر، فإنها لا تتكلم عن كل نبي لوحده، وهذا يخالف
منهج السور السابقة التي كانت تتحدث عن كل نبي مع قومه، أما هذه السورة
فإنها تصوّر كل الأنبياء مع كل الكفّار، كما في قوله تعالى: ]قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ[، ]وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ[. ]قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱلله شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ[ (10).
هل تفكّرت يوماً في أهمية هذه النعمة؟ ان الله تعالى بعزته وجبروته يناديك ويدعوك ليغفر لك ذنوبك وهو الغني عنك؟
واسمع إلى تأكيد الرسل مرة ثانية على أن ما هم فيه من إيمان
ومعرفة بالله تعالى هو أعظم النعم ]... وَلَـٰكِنَّ ٱلله يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ...[ (11).
نعم... ونقم
وتتوالى أنواع النعم والنقم في السورة:
فيأتي قوله تعالىمن النعم : ]وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ[ (14).
وتأتي مقابلها آيات شديدة في التحذير من نقمة الله:
]مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ &
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ
مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ & مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ...[ (16-18).
آيات كثيرة تتواصل، إلى أن تصل بنا إلى خطبة إبليس في جهنم، والتي هي بمثابة قمة نقمة الكفر على أصحابه.
خطبة إبليس
]وَقَالَ
ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاْمْرُ إِنَّ ٱلله وَعَدَكُمْ وَعْدَ
ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن
سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى[ (22).
تخيّل حسرة من سيسمع هذا الكلام! كيف تستجيب له وهو سيتبرأ منك بهذه الكلمات... }فَلاَ
تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا
أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ
إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ (22)... فهل هنالك نقمة أشدّ من ذلك؟!..
الكلمة الطيبة..
وتصل الآيات إلى آية محورية تشير إلى أن أعظم نعمة هي نعمة الإيمان، يضرب الله لنا فيها مثلاً: ]مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ[
ولقد ضرب الله هذا المثال لأن الناس يظنون أن نعم الله إنما هي مادية،
فيعلمنا الله تعالى بأن كلمة واحدة، نعمة واحدة، هي أعظم من كل النعم
الماديّة التي يراها الإنسان... ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱلله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَاء & تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ٱلله ٱلامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[
(24 – 25) فكما أنّ الشجر يثمر ثماراً طيبة، فكذلك شجرة لا إله إلاّ الله،
الراسخة الجذور، العالية الفروع، تثمر أشخاصاً مؤمنين (كأهل القرآن
والدعاة إلى الله والإيجابيين وغيرهم من أهل الخير المؤمنين..). وتؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها، حسنات وأعمالاً صالحة، تبقى لصاحبها صدقة جارية
بعد موته.
وبالمقابل فإن كلمة الكفر هشّة، خبيثة، لا جذع لها ولا أصل: ]وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ[ (26).
(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا)
وتعدد السورة نماذج أخرى من نعم الله: ]له ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء...[ و]وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ[ (32). ]وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلانْهَـٰرَ & وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ...[ (33).
كل هذه النعم مسخّرة تحت أيدينا، لماذا؟ حتى نعرف الله تعالى ونستشعر فضله ونسلك منهجه.
واللطيف أن الآية (34) تقول: ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا[.
فلم تقل الآية وإن تعدوا نعم الله، بل أننا لو حاولنا أن نعدّد خصائص نعمة
واحدة فقط (كنعمة الشمس مثلاً) لما قدرنا على إحصائها، فما بالك بأعظم
نعمة؟ نعمة الإيمان بالله ومعرفة منهجه؟...
نموذج إبراهيم
ويأتي ختام السورة، وهو
مقارنة بين نموذجين، نموذج لإنسان عاش في نعمة الله (سيدنا إبراهيم عليه
السلام) واستشعر نعمة الإيمان، وبالمقابل نموذج لأشخاص عاشوا بعيدين عن
الله وهم ظالمين لأنفسهم ومجتمعاتهم التي حولهم...
فسيدنا إبراهيم كان شكره واضحاً على النعمة: ]ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء[ (39). فكان دعاؤه الرائع ورجاؤه إلى الله أن يتم عليه نعمة الولد بنعمة أعظم منها وأجل: أن يحفظ الله دينه ودين ذريته بالصلاة: ]رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء & رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ[ (40 – 41). وانظر لهذا الحنان من أبينا إبراهيم، وهو يدعو لنا ولأولادنا أن يثبتوا على الصلاة.
وبعد ذلك تختتم السورة بأشد آيات القرآن على الظالمين والبعيدين عن الله ]وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلله غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ & مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء &
وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ
ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ
وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا
لَكُمْ مّن زَوَالٍ[ (42-44).
هل بعد هذا من نقمة ومهانة وذل؟
إن أعظم نعمة في الوجود هي أن تنجو من هذا الموقف، وأسوأ نقمة في الوجود أن تكون مع من قال الله فيهم: ]وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ & سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ[ (49 – 50)...
هذه سورة إبراهيم، سورة نعمة
الإيمان ونقمة الكفر، سميت باسم سيدنا إبراهيم كنموذج لمن استشعر نعمة
الله الكاملة وأدّى حق شكرها. من فضلك اقرأ هذه السورة واشكر ربنا على هذه
النعمة العظيمة، لأن شكرك له سيرقيك في مراتب الإيمان ]لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ[ (7). [/right]
سورة الحجر
سورة الحجر (مكية)، نزلت بعد يوسف. وهي في المصحف بعد سورة إبراهيم. عدد آياتها 99 آية.
- عاشقة شاقوريعضو مشارك
- الجنس : عدد المساهمات : 371 نقاط التميز : 805 تقييم العضو : 25 التسجيل : 09/05/2010
تمت المشاركة الأربعاء مايو 12, 2010 2:11 pm
- عاشقة شاقوريعضو مشارك
- الجنس : عدد المساهمات : 371 نقاط التميز : 805 تقييم العضو : 25 التسجيل : 09/05/2010
تمت المشاركة الأربعاء مايو 12, 2010 2:12 pm
لدعاة فقط
نزلت هذه السورة في وقت اشتدت فيه كل أنواع الإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين. أنزلت في ظرف شبيه بظروفنا المعاصرة، حيث كان جميع الناس ينظرون إلى الإسلام نظرة اتهام وتشكيك واستهزاء.
والاستهزاء قد يكون في بعض
الأحيان أصعب على النفس من الإيذاء البدني. أن تجد من حولك متفوقاً في
القوة والعدد، يستهزئ بك مع يقينك أنك على حق. إنه أمر قاس على النفس
البشرية. فأنزلت سورة الحجر لتطمئن النبي وكل أتباعه في كل العصور، وتقول
لهم: لا تخافوا، فأنتم محفوظون، والله سبحانه وتعالى سيحفظ دينه فتوكلوا
عليه ولا تنبهروا بقوة أعدائكم واستمروا في الدعوة إلى الله...
إنها سورة للدعاة، سورة
للذين يحبون الإسلام وينتمون إليه... إنها سورة الحفظ والعناية الربانية
للدعاة الذين يسخر الناس منهم لتمسكهم بتعاليم دينهم، وسورة الحفظ للفتاة
التي يسخر البعض من حجابها. فتقول لهم: توكلوا على الله ولا تنبهروا بقوة
أعدائكم، واستمروا في الدعوة إلى الله والأخذ بيد الناس إلى الإسلام.
هدف السورة
إذاً فهدف السورة صار
واضحاً: إن الله حافظ دينه وناصره، فلا تنبهر أيها المسلم من أي حضارة
أخرى، ولا تلتفت إلى استهزاء الآخرين وتشكيكهم بل ركز جهودك على الدعوة
إلى الله وعبادته. إنها رسالة طمأنة وتثبيت لكل من يخاف على الإسلام في
الوضع الحالي الذي نمر به نحن اليوم..
وهذه المعاني واضحة في آيات السورة منذ بدايتها حتى نهايتها: ففي بداية السورة: ]ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ (3).
وفي ختامها: ]وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ & فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ[ (97-98).
فالآيات تؤكد عليك أيها المؤمن ألا تنبهر بقوة الغير، وأن تركّز على دينك وعبادتك من تسبيح وسجود وعبادة وتثبت عليها حتى آخر حياتك ]وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ[ (99).
آيات الحفظ في السورة
والسورة تشير إلى حفظ الله لأمور عديدة، ومنها:
1. حفظ القرآن: ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ[ (9) هل نسيت أن الكتاب الذي هو دستور حياتك محفوظ؟ فالذي حفظ هذا الكتاب هو القادر على حفظ دينه ودعاته.
2. حفظ السماوات، فقد حفظها الله من الشياطين وجعلها متعة للناظرين: ]وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ & وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ & إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ[ (16-18)...
3. حفظ الأرض: ]وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ[ (19). فإذا كانت السماوات والأرض محفوظة لهذه الدرجة، فما ظنك أخي المسلم في حفظ الله لكتابه ودينه؟
4. حفظ الأرزاق: ]وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ & وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرٰزِقِينَ & وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ[ (19-21).. فالقرآن محفوظ والسماء محفوظة والمؤمنون محفوظون...
5. حفظ المؤمنين من كيد الشيطان ]إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[ (42).
6. واللطيف أن الآيات التي بشّرت المؤمنين بالجنة ذكرت أيضاً معنى الحفظ: ]ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ[ (46)... ]لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ[ (48).
فأنت أيها المؤمن محفوظ مع كتاب الله والسماوات والأرزاق.. بل إن الله حفظ هذا كله لنفعك وصلاح أمرك وقلبك.
إبليس وآدم
كما ذكرنا في سور سابقة، فإن
كل سورة في القرآن تأتي قصصها لتخدم هدف السورة. وقصة آدم وإبليس تنطبق
عليها نفس القاعدة. ففي القرآن عموماً تركّز هذه القصة على سيدنا آدم عليه
السلام. لكن سورة الحجر لم تأت على ذكر آدم، بل ركّزت على إبليس نفسه فهو
يقول كما ذكر تعالى: ]قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ & قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ & إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ & قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ & إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ[ (36-40)...
لاحظ الطريقة الأساسية التي
سيتبعها إبليس في الإغواء: تزيين الباطل في الأرض عن طريق إبهار الناس.
فالإبهار يغيّر الحق ويقلب المفاهيم ويشوّش على الكثير من ضعاف القلوب.
لكن عباد الله المخلصين محفوظون بإذن الله، فيأتي الرد على عدو الله:
]قَالَ هَذَا صِرٰطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ & إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[ (41 - 42).
إن هذه السورة هي سورة
الحفظ، فأنت محفوظ أيها الإنسان، والقرآن محفوظ كما حفظت السماوات من قبل،
والأرزاق محفوظة فلم الخوف..؟ إن هذه السورة قد أنزلت في ذروة إيذاء
المشركين للمسلمين في مكة، لتطمئن النبي وأصحابه أنهم محفوظون، والآن
تطمئن كل الدعاة إلى الله أنهم أيضاً محفوظون... أنتم محفوظون طالما كنتم
على صلة بربكم ]إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ[... الله تعالى هو الذي يقول هذا... وانظر إلى لطف الآية وهو يدافع عنك أمام عدوك، واستشعر بالفخر كونك تندرج تحت كلمة "عبادي" ].. إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[
أما الغاوون، فهم الذين اختاروا طريق الشيطان، وهم محرومون من هذا الحفظ
الرباني. هذه الحقائق كلها يعلمها إبليس، فهو أمام رب العزة يقول: ]إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ[.
فطالما أننا محفوظون، والحفظ مضمون من الله تعالى، فلم الخوف؟؟...
أصحاب الحجر
وهنا يأتي سؤال: ما سبب تسمية السورة بـ (الحجر)؟
إن الحجر هو المكان الذي سكنت فيه قبيلة ثمود (قوم صالح عليه السلام)، فما علاقة ذلك بالحفظ؟
إن أصحاب الحجر كذّبوا بآيات
الله ورفضوا طريق الإيمان، فشعروا بأن الله تعالى قد ينزل عليهم عقاباً أو
عذاباً، فبحثوا عن مكان يشعرون به بالأمان فلم يجدوا إلا الحجر. ولقد
توصّلوا إلى مدنية رائعة وحضارة راقية جعلتهم ينحتون من الجبال بيوتاً
آمنين... تقول الآيات ]وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ & وَءاتَيْنَـٰهُمْ ءايَـٰتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ & وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا ءامِنِينَ[
(80 - 82) لقد ظنوا أنهم إن سكنوا داخل الجبال سينجون من العذاب، فصاروا
ينحتون في الجبال بيوتاً ليضمنوا النجاة بعيداً عن الفيضانات وتقلبات
الطبيعة، فما الذي حصل لهم؟
]فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ[
(83) فالصيحة لا يحمي منها جدار ولا جبل ولا غير ذلك، ولقد جاءتهم مصبحين
أي في الصباح (لأنه رمز الأمان فالليل يوحي دائماً بالخوف)، وكأن المعنى
بأنه لا حفظ لك أيها الإنسان إلا من عند الله تعالى...
فلا تنبهر بهم (ولذلك ذكر
الله قدرته في الكون في أول السورة) وكانت طريقة عذابهم متفردة بين الأمم:
صيحة (أي صوتاً رهيباً) لا يحول دونها حافظ من حائط أو ريح أو ماء أو
حجارة.
لذلك سميت السورة بالحجر كرمز لقوة الحضارات الأخرى، لنحذر من الانبهار بالآخرين ولتؤكد أنه لا حافظ إلا الله.
توجيهات للدعاة في كل زمان
بعد أن استشعر قارئ السورة
مدى الحفظ الرباني وأهميته وعدم نفع كل ما سواه، تأتي نصائح مهمة للدعاة
إلى الله للتعقيب على قصص السورة ولتحقيق هدفها:
1.]وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءانَ ٱلْعَظِيمَ[
(87) في مقابل كل ما أوتي الآخرون من قوة ومظاهر مادية، آتاك الله سورة
الفاتحة والقرآن العظيم (هل تذكر سورة الفاتحة وعظمتها ومعانيها
الرائعة؟)، فتمسّك بما آتاك الله واعتز به ولا تمدّ عينيك إلى ما سواه،
لذلك تأتي الآية التالية:
2.]لاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[ (88).
فلا تنبهر أخي المسلم بمتاع
الدنيا الذي تراه عند الحضارات الأخرى، واعتزّ بإسلامك وتواضع لإخوانك. لا
تغرّنك تكنولوجية الغرب ولا تطوّر عمرانه، فإن القاعدة الربانية التي
طبّقت على أصحاب الحجر تنطبق عليهم أيضاً، وهي أنه لا حافظ إلا الله.
3.]فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ[
(94). اجهر بالدعوة رغم كل ما قد تتعرّض له لأن الله تعالى هو الحافظ. هذه
الآية كانت مرحلة الانتقال بين الدعوة السرية والجهر بالدعوة في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يشعرون بصعوبة الأمر، فجاءت الآية
ليطمئنوا بأنهم محفوظون رغم الاستهزاء... ]فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ & إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءينَ[ (94 - 95)..
4.]وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ & فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ & وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ[
(97 - 99). فالاستهزاء مزعج، ورغم أن المسلم مقتنع بحفظ الله، لكنه قد يمل
ويتشتت من أقوال الآخرين، فتقدّم الآية علاجاً للمشكلة، يشكل ختاماً
رائعاً لسورة الحفظ (كأنه تطبيق عملي لتستشعر بالحفظ الرباني): تسبيح الله
تعالى وعبادته حتى الممات (واليقين هو الموت) لأنك محفوظ، ودع المستهزئين
يقولون ما يشاءون، فإن مصيرهم لن يختلف عن مصير أصحاب الحجر.
اهتم بدينك أيها المسلم، وأصلح نفسك وادع غيرك إلى الله، تنعم بحفظ الله ورعايته في الدنيا وتفز بالجنة في الآخرة.
سورة النحل
سورة النحل (مكية) نزلت بعد الكهف، وهي في المصحف بعد سورة الحجر. عدد آياتها 128 آية، وهي باتفاق الكثير من العلماء: سورة النعم.
أذكرها... واشكرها..
لو أحضر أحدنا ورقة وقلماً
وظل يكتب نعم الله عليه، ثم قرأ سورة النحل، فسيجد كل ما كتبه من نعم...
وإذا قرأ السورة ودوّن في الورقة كل ما يصادفه في آياتها من نعم، سيرى أن
هذه النعم تشمل كل ما قد يخطر على باله...
فهي سورة النعم.
تخاطب قارئها قائلة: أنظر لنعم الله تعالى في الكون! من النعم الأساسيّة
(ضروريّات الحياة)، إلى النعم الخفيّة التي يغفل عنها المرء وينساها وحتى
التي يجهلها.. كل أنواع النعم، وبعد عرض كل مجموعة من النعم تأتي آية
فاصلة، تذكيراً بأن المنعم هو الله ]وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله[ (53)، أو ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا[
(18)، وهناك آيات عديدة في السورة تفصل بين مقاطع النعم المختلفة لتحذّر
من سوء استخدام النعمة بأن تستعمل في معصية الله تعالى، وبالمقابل تحثّ
المرء على شكر نعم الله تعالى عليه وتوظيفها فيما خلقت له..
سورة إبراهيم وسورة النحل
وقد يقول قائل: إن سورة إبراهيم تحدثت عن نعم الله، فما علاقتها بسورة النحل؟
سورة إبراهيم ركّزت على نعمة
واحدة فقط: الإيمان (وكان محورها أن نعمة الإيمان أهم نعمة من نعم الله).
أما سورة النحل، فقد اشتملت على نعم الله كلها، من أبسط أمور الحياة إلى
أهم نعمة والتي هي الإيمان والوحي، لذلك بدأت السورة بنفس النعمة التي
بدأت فيها سورة إبراهيم: الوحي. ]الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ...[ (1) وهنا ]يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ[ (2).
عرض مستمر
تبدأ السورة بعرض نعم الله تعالى:
1- نعمة الوحي وهي أوّل النعم في السورة ]يُنَزّلُ
ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ
عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ[ (2).
2- نعمة إيجاد السماوات والأرض ]خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ[ (3)..
3- نعمة خلق الإنسان ]خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ[ (4).. فالروح التي بداخلك هي نعمة من الله، بعد أن خلقك وأوجدك من العدم...
4- نعمة الأنعام للغذاء والملبس والتنقلات ]وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ[ (5)... ثم ]وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ (... فهذه الآية تشمل وسائل النقل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتشير إلى كل وسائل النقل الحديثة في عالمنا في قوله ]وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ فهي تشمل الطائرات والسيارات و... وكلها من أجل نعم الله علينا.
5- نعمة الماء المنزّل من السماء ]هُوَ ٱلَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ[ (10).
6- نعمة الزرع ]يُنبِتُ
لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ وَمِن
كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ (11).
7- نعمة تسخير الكون للإنسان ]وَسَخَّرَ
لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ
مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ (12).
إن كل هذا الكون بعظمته
مسخّر لحضرتك حتى تعيش وتحقق أمانة الاستخلاف... فتخيّله بدون نعمة
التسخير لحياة الناس. تخيّل الأرض بدون أوكسجين، أو من غير شمس تعطينا
الضوء والدفء...
نعمة تجميل الأرض ]وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[
(13).. إنها نعمة يراها الناس كل يوم ولكن للأسف يغفلون عنها. لقد اعتدنا
على النعم وألفناها، فتأتي السورة لتهز النفوس من جديد وتلفت نظرنا إلى
آيات الله في الكون.
مزيد من النعم
وبعد ذلك تحدثنا الآيات عن نعم جديدة، يخرجها رب العالمين من حيث لا نتصور، ومنها:
8- نعمة تسخير البحر ]وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا..[ (14).. فهل يتصور أحد أن البحر الهادر المخيف يخرج اللحم الشهي والمرجان واللؤلو ذات الاشكال الجميلة ؟
إنّ مشكلة الإنسان تكمن في أنه قد اعتاد النعمة وألفها... فتأتي سورة
النحل لتقول للناس تفكّروا في نعم الله تعالى عليكم وجدّدوا إحساسكم بها
وشكركم لله عليها...
9- نعمة خلق الجبال.. ]وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ..[ (15) فقد جعل الله الجبال أوتاداً لتثبيت الأرض من الزلازل كما أثبت العلم الحديث.
10- نعمة خلق النجوم ]وَعَلامَـٰتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[ (16)... فهذه النجوم تدلنا على الاتجاهات أثناء السفر بالإضافة إلى اتجاه القبلة.
11- نعمة ألبان الأنعام ]وَإِنَّ
لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ
مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ[
(66).. فهل تصوّر أحدنا المكان الذي يخرج منه اللبن نقياً طيب الطعم
والرائحة، من بين الدم والروث...؟ ومع ذلك فإنّه يخرج خالصاً نقيّاً لا
يوجد فيه قطرة دم واحدة ولا قطرة أذى! ]لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ[.
12- نعمة العلم والسمع والأبصار ]وَٱلله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا[ (78) ثم أعطانا أدوات العلم ]وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (78)..
13- نعمة الطير ]أَلَمْ
يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرٰتٍ فِى جَوّ ٱلسَّمَآء مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلله إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ (79)
فمن منا يعتبر ويشكر؟ ومن منا يوظّف هذه النعم فيما يحبّه الله ويرضاه؟
استعمال النعم في غير أهدافها
ولأن هدف السورة لا يقتصر
على تعداد النعم، بل يركز على استخدام هذه النعم وتوظيفها لما خلقت له،
فإننا نرى بعد كل موجة من ذكر النعم آيات تحذّر من سوء استخدام النعمة
(الآيات 19 - 29). فمثلاً الآية (24) تنكر على من لا يقدّر نعمة الوحي بل يكذّبها: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ[ فكانت عاقبتهم وخيمة ]لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ...[ (25).
والآية التي بعدها تصوّر لنا مشهداً رهيباً لمن جحد بأنعم الله:
]قَدْ
مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱلله بُنْيَـٰنَهُمْ مّنَ
ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـٰهُمُ
ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ[ (26).
وبالمقابل، تأتي الآيات التي بعدها مباشرة (30 - 32) لتبشّر من أحسن استخدام النعم، ]وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا...[ فانظر إلى هذا المدح الرباني لمن قدّر نعمة الوحي وعرفها في مقابل الذين كذّبوا بآيات الله (الآية 24). وتأتي الآية (32): ]ٱلَّذِينَ
تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ
عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[.
أيضاً في مقابل الآية (28) ]ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء..[.
نعمة الرسل والهداية
نعمة مهمّة يتكرر ذكرها في السورة: إنها نعمة الرسل والهداية: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱلله وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ[ (36) فإرسال الرسل إلى البشر بشرع الله ومنهجه هو أعظم نعمة على الناس في كل العصور.
]وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ &
بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (43-44).
هل كتبت بين النعم التي منّ بها الله عليك، إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلينا؟
وإنزال القرآن الذي نقرأه
ونعيش مع آياته ومعانيه؟... وهل فكرت يوماً في تطبيق أوامر القرآن وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم بنية شكر ربنا على هاتين النعمتين العظيمتين؟
وما بكم من نعمة فمن الله
وبعد ذكر النعم المتتالية، تأتي آية محورية وفاصلة لتعقب عليها: ]وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله[ (53)
لتلفت النظر إلى أن استشعار النعمة هو بداية التمهيد لشكر الخالق، فالنِعمة قيدُها الشُكر، والشكر ضمانة لاستمرار النعم ]لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ[ (إبراهيم، 7).
فلو أرجع الإنسان كل ما في
حياته إلى أصله فإنّه سيجد أنّه لا يملك شيئا.. من أول حاجياته الأساسية
(من لباس ومأكل ومشرب) إلى آخر مستجدات التكنولوجيا الحديثة (من مركبات
فضائية وكومبيوتر وسيّارات..). فكلها تعتمد على المواد الأولية التي
سخّرها الله لنا، وكلها نتاج العقل البشري، الذي هو أعظم نعمة أعطانا
إياها ربنا.
إبراهيم عليه السلام: شاكراً لأنعمه
وتختم السورة بقصّة شخص شاكر
لأنعم الله، إنه سيّدنا إبراهيم عليه السلام، والملفت أن السورة وصفت
سيدنا إبراهيم بإحدى أهم صفاته التي تخدم هدف السورة: ]شَاكِراً لأَنْعُمِهِ[ (121).
وبعد أن أصبح شاكراً لأنعم الله ]ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ (121).
سبب تسمية السورة
يبقى سؤال مهم: لماذا سمّيت هذه السورة بسورة النحل؟ إن هذه السورة لم تسم باسم النعم التي ملأتها ولكن باسم النحل، فلماذا؟
يقول تعالى ]وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ &
ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً
يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء
لِلنَّاسِ[ (68 - 69).
أولاً إن النحل وتنظيم مملكته وطريقة إخراجه للنحل هي نعم عظيمة من نعم الله وآياته في الكون.
ثانياً، إن الآيات قد بدأت بقوله تعالى ]وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ[، فهي تشير إلى اتباع النحل للوحي الرباني وطاعتها لله واستعمالها لإرشادات الوحي لتنفيذ ما كلفت به بدقة ]ٱتَّخِذِى... كُلِى... فَٱسْلُكِى...[.
فكان النحل نموذجاً لتوظيف
النعمة طاعة لله، فلما أطاع الله ونفّذ أوامره، أخرج الله من بطونه عسلاً
شافياً ومفيداً للأرض كلّها... ولاحظ دقة التعبير القرآني في كلمة ]يَخْرُجُ[،
ولم تقل الآية (فاخرجي عسلاً)، لأنها لما اتبعت الوحي وطبقت منهج ربنا خرج
عسل مفيد ونافع، وكذلك الوحي، ينزل على الأمة، فإن التزمت بأوامر الله
واتبعت الوحي، فسيخرج عسل الهداية والنور للمجتمع.
ومن اللطيف في مملكة النحل: اعتمادها على الإناث بشكل أساسي، وحتى النداء القرآني لها ]كُلِى.. فَٱسْلُكِى..[ كان بصيغة المؤنث، لأن الذكور لا عمل لهم إلا تلقيح الملكة، بينما يقع الدور الأساسي في العمل والبناء وإخراج العسل على الإناث.
القرآن والعسل... شفاء للأرواح والأبدان
ومن روعة القرآن أيضاً، أن
كلمة الشفاء لم ترد في القرآن كله إلا مرتين: مرة عن العسل ومرة عن
القرآن،... فالقرآن فيه شفاء للناس كالعسل تماماً... والله تعالى في هذه
السورة عدّد علينا نعماً كثيرة (وأهمها الوحي) وحذّرنا من سوء
استخدامها... فلو أحسنا استخدام نعمة العسل فسوف نشفي أبداننا، وبالمقابل
لو أحسّنا استخدام القرآن لكان في ذلك شفاء للعقول والقلوب والأرواح...
قدم ثمن العسل
كانت هذه سورة النحل سورة
النعم، فإذا علمت أن سورة النحل هي سورة النعم، وتذكرت نعم الله عليك ثم
لم تشعر بكل جوارحك وبكل ذرة من جسمك بأنّك بحاجة إلى أن تشكر الله...
فينبغي أن تراجع نفسك..لأنك بهذا لم تستفد من سورة النحل... إنها سورة
الحمد، سورة معرفة نعم الله وشكره...
وينبغي أن نسأل أنفسنا، هل
نحن قد وظّفنا نِعم الله في مرضاته، أم نستخدمها في معصية... فإذا كان
الإنسان يستخدم نعم الله في معصيته فليخف من الآية ]وَضَرَبَ
ٱلله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱلله
فَأَذَاقَهَا ٱلله لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْ
نزلت هذه السورة في وقت اشتدت فيه كل أنواع الإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين. أنزلت في ظرف شبيه بظروفنا المعاصرة، حيث كان جميع الناس ينظرون إلى الإسلام نظرة اتهام وتشكيك واستهزاء.
والاستهزاء قد يكون في بعض
الأحيان أصعب على النفس من الإيذاء البدني. أن تجد من حولك متفوقاً في
القوة والعدد، يستهزئ بك مع يقينك أنك على حق. إنه أمر قاس على النفس
البشرية. فأنزلت سورة الحجر لتطمئن النبي وكل أتباعه في كل العصور، وتقول
لهم: لا تخافوا، فأنتم محفوظون، والله سبحانه وتعالى سيحفظ دينه فتوكلوا
عليه ولا تنبهروا بقوة أعدائكم واستمروا في الدعوة إلى الله...
إنها سورة للدعاة، سورة
للذين يحبون الإسلام وينتمون إليه... إنها سورة الحفظ والعناية الربانية
للدعاة الذين يسخر الناس منهم لتمسكهم بتعاليم دينهم، وسورة الحفظ للفتاة
التي يسخر البعض من حجابها. فتقول لهم: توكلوا على الله ولا تنبهروا بقوة
أعدائكم، واستمروا في الدعوة إلى الله والأخذ بيد الناس إلى الإسلام.
هدف السورة
إذاً فهدف السورة صار
واضحاً: إن الله حافظ دينه وناصره، فلا تنبهر أيها المسلم من أي حضارة
أخرى، ولا تلتفت إلى استهزاء الآخرين وتشكيكهم بل ركز جهودك على الدعوة
إلى الله وعبادته. إنها رسالة طمأنة وتثبيت لكل من يخاف على الإسلام في
الوضع الحالي الذي نمر به نحن اليوم..
وهذه المعاني واضحة في آيات السورة منذ بدايتها حتى نهايتها: ففي بداية السورة: ]ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ (3).
وفي ختامها: ]وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ & فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ[ (97-98).
فالآيات تؤكد عليك أيها المؤمن ألا تنبهر بقوة الغير، وأن تركّز على دينك وعبادتك من تسبيح وسجود وعبادة وتثبت عليها حتى آخر حياتك ]وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ[ (99).
آيات الحفظ في السورة
والسورة تشير إلى حفظ الله لأمور عديدة، ومنها:
1. حفظ القرآن: ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ[ (9) هل نسيت أن الكتاب الذي هو دستور حياتك محفوظ؟ فالذي حفظ هذا الكتاب هو القادر على حفظ دينه ودعاته.
2. حفظ السماوات، فقد حفظها الله من الشياطين وجعلها متعة للناظرين: ]وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ & وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ & إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ[ (16-18)...
3. حفظ الأرض: ]وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ[ (19). فإذا كانت السماوات والأرض محفوظة لهذه الدرجة، فما ظنك أخي المسلم في حفظ الله لكتابه ودينه؟
4. حفظ الأرزاق: ]وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ & وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرٰزِقِينَ & وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ[ (19-21).. فالقرآن محفوظ والسماء محفوظة والمؤمنون محفوظون...
5. حفظ المؤمنين من كيد الشيطان ]إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[ (42).
6. واللطيف أن الآيات التي بشّرت المؤمنين بالجنة ذكرت أيضاً معنى الحفظ: ]ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ[ (46)... ]لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ[ (48).
فأنت أيها المؤمن محفوظ مع كتاب الله والسماوات والأرزاق.. بل إن الله حفظ هذا كله لنفعك وصلاح أمرك وقلبك.
إبليس وآدم
كما ذكرنا في سور سابقة، فإن
كل سورة في القرآن تأتي قصصها لتخدم هدف السورة. وقصة آدم وإبليس تنطبق
عليها نفس القاعدة. ففي القرآن عموماً تركّز هذه القصة على سيدنا آدم عليه
السلام. لكن سورة الحجر لم تأت على ذكر آدم، بل ركّزت على إبليس نفسه فهو
يقول كما ذكر تعالى: ]قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ & قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ & إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ & قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ & إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ[ (36-40)...
لاحظ الطريقة الأساسية التي
سيتبعها إبليس في الإغواء: تزيين الباطل في الأرض عن طريق إبهار الناس.
فالإبهار يغيّر الحق ويقلب المفاهيم ويشوّش على الكثير من ضعاف القلوب.
لكن عباد الله المخلصين محفوظون بإذن الله، فيأتي الرد على عدو الله:
]قَالَ هَذَا صِرٰطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ & إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[ (41 - 42).
إن هذه السورة هي سورة
الحفظ، فأنت محفوظ أيها الإنسان، والقرآن محفوظ كما حفظت السماوات من قبل،
والأرزاق محفوظة فلم الخوف..؟ إن هذه السورة قد أنزلت في ذروة إيذاء
المشركين للمسلمين في مكة، لتطمئن النبي وأصحابه أنهم محفوظون، والآن
تطمئن كل الدعاة إلى الله أنهم أيضاً محفوظون... أنتم محفوظون طالما كنتم
على صلة بربكم ]إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ[... الله تعالى هو الذي يقول هذا... وانظر إلى لطف الآية وهو يدافع عنك أمام عدوك، واستشعر بالفخر كونك تندرج تحت كلمة "عبادي" ].. إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ[
أما الغاوون، فهم الذين اختاروا طريق الشيطان، وهم محرومون من هذا الحفظ
الرباني. هذه الحقائق كلها يعلمها إبليس، فهو أمام رب العزة يقول: ]إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ[.
فطالما أننا محفوظون، والحفظ مضمون من الله تعالى، فلم الخوف؟؟...
أصحاب الحجر
وهنا يأتي سؤال: ما سبب تسمية السورة بـ (الحجر)؟
إن الحجر هو المكان الذي سكنت فيه قبيلة ثمود (قوم صالح عليه السلام)، فما علاقة ذلك بالحفظ؟
إن أصحاب الحجر كذّبوا بآيات
الله ورفضوا طريق الإيمان، فشعروا بأن الله تعالى قد ينزل عليهم عقاباً أو
عذاباً، فبحثوا عن مكان يشعرون به بالأمان فلم يجدوا إلا الحجر. ولقد
توصّلوا إلى مدنية رائعة وحضارة راقية جعلتهم ينحتون من الجبال بيوتاً
آمنين... تقول الآيات ]وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ & وَءاتَيْنَـٰهُمْ ءايَـٰتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ & وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا ءامِنِينَ[
(80 - 82) لقد ظنوا أنهم إن سكنوا داخل الجبال سينجون من العذاب، فصاروا
ينحتون في الجبال بيوتاً ليضمنوا النجاة بعيداً عن الفيضانات وتقلبات
الطبيعة، فما الذي حصل لهم؟
]فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ[
(83) فالصيحة لا يحمي منها جدار ولا جبل ولا غير ذلك، ولقد جاءتهم مصبحين
أي في الصباح (لأنه رمز الأمان فالليل يوحي دائماً بالخوف)، وكأن المعنى
بأنه لا حفظ لك أيها الإنسان إلا من عند الله تعالى...
فلا تنبهر بهم (ولذلك ذكر
الله قدرته في الكون في أول السورة) وكانت طريقة عذابهم متفردة بين الأمم:
صيحة (أي صوتاً رهيباً) لا يحول دونها حافظ من حائط أو ريح أو ماء أو
حجارة.
لذلك سميت السورة بالحجر كرمز لقوة الحضارات الأخرى، لنحذر من الانبهار بالآخرين ولتؤكد أنه لا حافظ إلا الله.
توجيهات للدعاة في كل زمان
بعد أن استشعر قارئ السورة
مدى الحفظ الرباني وأهميته وعدم نفع كل ما سواه، تأتي نصائح مهمة للدعاة
إلى الله للتعقيب على قصص السورة ولتحقيق هدفها:
1.]وَلَقَدْ ءاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءانَ ٱلْعَظِيمَ[
(87) في مقابل كل ما أوتي الآخرون من قوة ومظاهر مادية، آتاك الله سورة
الفاتحة والقرآن العظيم (هل تذكر سورة الفاتحة وعظمتها ومعانيها
الرائعة؟)، فتمسّك بما آتاك الله واعتز به ولا تمدّ عينيك إلى ما سواه،
لذلك تأتي الآية التالية:
2.]لاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[ (88).
فلا تنبهر أخي المسلم بمتاع
الدنيا الذي تراه عند الحضارات الأخرى، واعتزّ بإسلامك وتواضع لإخوانك. لا
تغرّنك تكنولوجية الغرب ولا تطوّر عمرانه، فإن القاعدة الربانية التي
طبّقت على أصحاب الحجر تنطبق عليهم أيضاً، وهي أنه لا حافظ إلا الله.
3.]فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ[
(94). اجهر بالدعوة رغم كل ما قد تتعرّض له لأن الله تعالى هو الحافظ. هذه
الآية كانت مرحلة الانتقال بين الدعوة السرية والجهر بالدعوة في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يشعرون بصعوبة الأمر، فجاءت الآية
ليطمئنوا بأنهم محفوظون رغم الاستهزاء... ]فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ & إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءينَ[ (94 - 95)..
4.]وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ & فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ & وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ[
(97 - 99). فالاستهزاء مزعج، ورغم أن المسلم مقتنع بحفظ الله، لكنه قد يمل
ويتشتت من أقوال الآخرين، فتقدّم الآية علاجاً للمشكلة، يشكل ختاماً
رائعاً لسورة الحفظ (كأنه تطبيق عملي لتستشعر بالحفظ الرباني): تسبيح الله
تعالى وعبادته حتى الممات (واليقين هو الموت) لأنك محفوظ، ودع المستهزئين
يقولون ما يشاءون، فإن مصيرهم لن يختلف عن مصير أصحاب الحجر.
اهتم بدينك أيها المسلم، وأصلح نفسك وادع غيرك إلى الله، تنعم بحفظ الله ورعايته في الدنيا وتفز بالجنة في الآخرة.
سورة النحل
سورة النحل (مكية) نزلت بعد الكهف، وهي في المصحف بعد سورة الحجر. عدد آياتها 128 آية، وهي باتفاق الكثير من العلماء: سورة النعم.
أذكرها... واشكرها..
لو أحضر أحدنا ورقة وقلماً
وظل يكتب نعم الله عليه، ثم قرأ سورة النحل، فسيجد كل ما كتبه من نعم...
وإذا قرأ السورة ودوّن في الورقة كل ما يصادفه في آياتها من نعم، سيرى أن
هذه النعم تشمل كل ما قد يخطر على باله...
فهي سورة النعم.
تخاطب قارئها قائلة: أنظر لنعم الله تعالى في الكون! من النعم الأساسيّة
(ضروريّات الحياة)، إلى النعم الخفيّة التي يغفل عنها المرء وينساها وحتى
التي يجهلها.. كل أنواع النعم، وبعد عرض كل مجموعة من النعم تأتي آية
فاصلة، تذكيراً بأن المنعم هو الله ]وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله[ (53)، أو ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا[
(18)، وهناك آيات عديدة في السورة تفصل بين مقاطع النعم المختلفة لتحذّر
من سوء استخدام النعمة بأن تستعمل في معصية الله تعالى، وبالمقابل تحثّ
المرء على شكر نعم الله تعالى عليه وتوظيفها فيما خلقت له..
سورة إبراهيم وسورة النحل
وقد يقول قائل: إن سورة إبراهيم تحدثت عن نعم الله، فما علاقتها بسورة النحل؟
سورة إبراهيم ركّزت على نعمة
واحدة فقط: الإيمان (وكان محورها أن نعمة الإيمان أهم نعمة من نعم الله).
أما سورة النحل، فقد اشتملت على نعم الله كلها، من أبسط أمور الحياة إلى
أهم نعمة والتي هي الإيمان والوحي، لذلك بدأت السورة بنفس النعمة التي
بدأت فيها سورة إبراهيم: الوحي. ]الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ...[ (1) وهنا ]يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ[ (2).
عرض مستمر
تبدأ السورة بعرض نعم الله تعالى:
1- نعمة الوحي وهي أوّل النعم في السورة ]يُنَزّلُ
ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ
عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ[ (2).
2- نعمة إيجاد السماوات والأرض ]خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ[ (3)..
3- نعمة خلق الإنسان ]خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ[ (4).. فالروح التي بداخلك هي نعمة من الله، بعد أن خلقك وأوجدك من العدم...
4- نعمة الأنعام للغذاء والملبس والتنقلات ]وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ[ (5)... ثم ]وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ (... فهذه الآية تشمل وسائل النقل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتشير إلى كل وسائل النقل الحديثة في عالمنا في قوله ]وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ فهي تشمل الطائرات والسيارات و... وكلها من أجل نعم الله علينا.
5- نعمة الماء المنزّل من السماء ]هُوَ ٱلَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ[ (10).
6- نعمة الزرع ]يُنبِتُ
لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَـٰبَ وَمِن
كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ (11).
7- نعمة تسخير الكون للإنسان ]وَسَخَّرَ
لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ
مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ (12).
إن كل هذا الكون بعظمته
مسخّر لحضرتك حتى تعيش وتحقق أمانة الاستخلاف... فتخيّله بدون نعمة
التسخير لحياة الناس. تخيّل الأرض بدون أوكسجين، أو من غير شمس تعطينا
الضوء والدفء...
نعمة تجميل الأرض ]وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[
(13).. إنها نعمة يراها الناس كل يوم ولكن للأسف يغفلون عنها. لقد اعتدنا
على النعم وألفناها، فتأتي السورة لتهز النفوس من جديد وتلفت نظرنا إلى
آيات الله في الكون.
مزيد من النعم
وبعد ذلك تحدثنا الآيات عن نعم جديدة، يخرجها رب العالمين من حيث لا نتصور، ومنها:
8- نعمة تسخير البحر ]وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا..[ (14).. فهل يتصور أحد أن البحر الهادر المخيف يخرج اللحم الشهي والمرجان واللؤلو ذات الاشكال الجميلة ؟
إنّ مشكلة الإنسان تكمن في أنه قد اعتاد النعمة وألفها... فتأتي سورة
النحل لتقول للناس تفكّروا في نعم الله تعالى عليكم وجدّدوا إحساسكم بها
وشكركم لله عليها...
9- نعمة خلق الجبال.. ]وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ..[ (15) فقد جعل الله الجبال أوتاداً لتثبيت الأرض من الزلازل كما أثبت العلم الحديث.
10- نعمة خلق النجوم ]وَعَلامَـٰتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[ (16)... فهذه النجوم تدلنا على الاتجاهات أثناء السفر بالإضافة إلى اتجاه القبلة.
11- نعمة ألبان الأنعام ]وَإِنَّ
لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ
مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ[
(66).. فهل تصوّر أحدنا المكان الذي يخرج منه اللبن نقياً طيب الطعم
والرائحة، من بين الدم والروث...؟ ومع ذلك فإنّه يخرج خالصاً نقيّاً لا
يوجد فيه قطرة دم واحدة ولا قطرة أذى! ]لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ[.
12- نعمة العلم والسمع والأبصار ]وَٱلله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا[ (78) ثم أعطانا أدوات العلم ]وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (78)..
13- نعمة الطير ]أَلَمْ
يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرٰتٍ فِى جَوّ ٱلسَّمَآء مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلله إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ (79)
فمن منا يعتبر ويشكر؟ ومن منا يوظّف هذه النعم فيما يحبّه الله ويرضاه؟
استعمال النعم في غير أهدافها
ولأن هدف السورة لا يقتصر
على تعداد النعم، بل يركز على استخدام هذه النعم وتوظيفها لما خلقت له،
فإننا نرى بعد كل موجة من ذكر النعم آيات تحذّر من سوء استخدام النعمة
(الآيات 19 - 29). فمثلاً الآية (24) تنكر على من لا يقدّر نعمة الوحي بل يكذّبها: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ[ فكانت عاقبتهم وخيمة ]لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ...[ (25).
والآية التي بعدها تصوّر لنا مشهداً رهيباً لمن جحد بأنعم الله:
]قَدْ
مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱلله بُنْيَـٰنَهُمْ مّنَ
ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـٰهُمُ
ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ[ (26).
وبالمقابل، تأتي الآيات التي بعدها مباشرة (30 - 32) لتبشّر من أحسن استخدام النعم، ]وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا...[ فانظر إلى هذا المدح الرباني لمن قدّر نعمة الوحي وعرفها في مقابل الذين كذّبوا بآيات الله (الآية 24). وتأتي الآية (32): ]ٱلَّذِينَ
تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـٰمٌ
عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[.
أيضاً في مقابل الآية (28) ]ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء..[.
نعمة الرسل والهداية
نعمة مهمّة يتكرر ذكرها في السورة: إنها نعمة الرسل والهداية: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱلله وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ[ (36) فإرسال الرسل إلى البشر بشرع الله ومنهجه هو أعظم نعمة على الناس في كل العصور.
]وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ &
بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (43-44).
هل كتبت بين النعم التي منّ بها الله عليك، إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلينا؟
وإنزال القرآن الذي نقرأه
ونعيش مع آياته ومعانيه؟... وهل فكرت يوماً في تطبيق أوامر القرآن وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم بنية شكر ربنا على هاتين النعمتين العظيمتين؟
وما بكم من نعمة فمن الله
وبعد ذكر النعم المتتالية، تأتي آية محورية وفاصلة لتعقب عليها: ]وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله[ (53)
لتلفت النظر إلى أن استشعار النعمة هو بداية التمهيد لشكر الخالق، فالنِعمة قيدُها الشُكر، والشكر ضمانة لاستمرار النعم ]لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ[ (إبراهيم، 7).
فلو أرجع الإنسان كل ما في
حياته إلى أصله فإنّه سيجد أنّه لا يملك شيئا.. من أول حاجياته الأساسية
(من لباس ومأكل ومشرب) إلى آخر مستجدات التكنولوجيا الحديثة (من مركبات
فضائية وكومبيوتر وسيّارات..). فكلها تعتمد على المواد الأولية التي
سخّرها الله لنا، وكلها نتاج العقل البشري، الذي هو أعظم نعمة أعطانا
إياها ربنا.
إبراهيم عليه السلام: شاكراً لأنعمه
وتختم السورة بقصّة شخص شاكر
لأنعم الله، إنه سيّدنا إبراهيم عليه السلام، والملفت أن السورة وصفت
سيدنا إبراهيم بإحدى أهم صفاته التي تخدم هدف السورة: ]شَاكِراً لأَنْعُمِهِ[ (121).
وبعد أن أصبح شاكراً لأنعم الله ]ٱجْتَبَـٰهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ (121).
سبب تسمية السورة
يبقى سؤال مهم: لماذا سمّيت هذه السورة بسورة النحل؟ إن هذه السورة لم تسم باسم النعم التي ملأتها ولكن باسم النحل، فلماذا؟
يقول تعالى ]وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ &
ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً
يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء
لِلنَّاسِ[ (68 - 69).
أولاً إن النحل وتنظيم مملكته وطريقة إخراجه للنحل هي نعم عظيمة من نعم الله وآياته في الكون.
ثانياً، إن الآيات قد بدأت بقوله تعالى ]وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ[، فهي تشير إلى اتباع النحل للوحي الرباني وطاعتها لله واستعمالها لإرشادات الوحي لتنفيذ ما كلفت به بدقة ]ٱتَّخِذِى... كُلِى... فَٱسْلُكِى...[.
فكان النحل نموذجاً لتوظيف
النعمة طاعة لله، فلما أطاع الله ونفّذ أوامره، أخرج الله من بطونه عسلاً
شافياً ومفيداً للأرض كلّها... ولاحظ دقة التعبير القرآني في كلمة ]يَخْرُجُ[،
ولم تقل الآية (فاخرجي عسلاً)، لأنها لما اتبعت الوحي وطبقت منهج ربنا خرج
عسل مفيد ونافع، وكذلك الوحي، ينزل على الأمة، فإن التزمت بأوامر الله
واتبعت الوحي، فسيخرج عسل الهداية والنور للمجتمع.
ومن اللطيف في مملكة النحل: اعتمادها على الإناث بشكل أساسي، وحتى النداء القرآني لها ]كُلِى.. فَٱسْلُكِى..[ كان بصيغة المؤنث، لأن الذكور لا عمل لهم إلا تلقيح الملكة، بينما يقع الدور الأساسي في العمل والبناء وإخراج العسل على الإناث.
القرآن والعسل... شفاء للأرواح والأبدان
ومن روعة القرآن أيضاً، أن
كلمة الشفاء لم ترد في القرآن كله إلا مرتين: مرة عن العسل ومرة عن
القرآن،... فالقرآن فيه شفاء للناس كالعسل تماماً... والله تعالى في هذه
السورة عدّد علينا نعماً كثيرة (وأهمها الوحي) وحذّرنا من سوء
استخدامها... فلو أحسنا استخدام نعمة العسل فسوف نشفي أبداننا، وبالمقابل
لو أحسّنا استخدام القرآن لكان في ذلك شفاء للعقول والقلوب والأرواح...
قدم ثمن العسل
كانت هذه سورة النحل سورة
النعم، فإذا علمت أن سورة النحل هي سورة النعم، وتذكرت نعم الله عليك ثم
لم تشعر بكل جوارحك وبكل ذرة من جسمك بأنّك بحاجة إلى أن تشكر الله...
فينبغي أن تراجع نفسك..لأنك بهذا لم تستفد من سورة النحل... إنها سورة
الحمد، سورة معرفة نعم الله وشكره...
وينبغي أن نسأل أنفسنا، هل
نحن قد وظّفنا نِعم الله في مرضاته، أم نستخدمها في معصية... فإذا كان
الإنسان يستخدم نعم الله في معصيته فليخف من الآية ]وَضَرَبَ
ٱلله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱلله
فَأَذَاقَهَا ٱلله لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْ
- barcaعضو محترف
تمت المشاركة الأربعاء مايو 12, 2010 8:39 pm
شكرا جزيلا لك عاشقة شاقوري على الموضوع القيم والمجهود الرائع
التوقــيـــــــــــــــــــــع
فداك أبـــــــــ يا رسول الله ــــــي وأمي
معلوماتـــ مهمة:
تنبيــه!! [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى