الكتاب الأول.. دعوة إلى الحياة.. السفر...
وكَلَّم قابيلُ هابيلَ أخاه، وحَدَثَ
إذ كانا في الحقلِ أن قابيلَ قامَ على هابيلَ أخيهِ وقتلهُ, فقال الربُّ لقابيلَ أين هابيلُ أخوك، فقالَ لا أعلمُ. أحارسٌ أنا لأخي، فقالَ ماذا فعلتَ. صوتُ دمِ أخيكَ صارخٌ إليَّ من الأرض.
(1)
سلام.. داليا.. مية.. سنار.. رشا.. أحلام...
وتنبعث في ذاكرتها شرارة سوداء.. سوداء حارقة أستنزف الحزن واللوعة والذكرى التي لا تموت ما فيها من وهج ناري فغدت بلون قار معتق.. ومع ذلك انفلاتة من مكامنها.. مع كل شهقة حب أو أسى.. تبعث الحياة من جديد في الأحزان الغافية في القلب...
ومر كشريط حي كل ما جرى في تلك الأيام أمام عينيها...
(((
رن جرس الباب بإلحاح.. عقارب الساعة لم تبلغ بعد السادسة من صباح نهار جديد.. كانت سميرة تساعد سعداً في تناول فطوره.. فيما كانت هناء تتناول فطورها بكسل وهي تصارع بقايا نوم ما زال عالقاً بين أجفانها.
أيقظها رنين الجرس.. تركت ما كان بيدها وهرعت نحو الباب لتفتحه..
تساءلت سميرة:
تُرى.. من القادم في هذا الوقت المبكر؟!
اندفعت أُم سميرة مجتازة الباب وهي تسأل وقد ارتم على وجهها خوف أنساها الرعب كيف تخفيه:
ـ هناء.. أين أمك؟
ودون أن تترك فرصة لهناء لترد عليها، راحت تنادي وهي تندفع كريح عاصفة هوجاء نحو الصالة:
ـ سميرة.. سميرة.. أين أنت؟
خرجت سميرة من المطبخ مسرعة وهي تنشف كفيها بمنديل أخضر تنتثر على حواشيه زهور صغيرة تزدهي بياضاً.. ووريقات حمر تبعثرت على جوانبها نقاط سود..
ـ أمي.. ما بك؟.. ماذا حدث؟
ـ سميرة.. جاء مبعوث من خالك برسالة عاجلة يدعونا فيها للذهاب إلى بعقوبة والبقاء معهم بضعة أيام ريثما تنجلي هذه الغمة.. حاولت الاتصال بك وبأحلام.. لكن التلفون كان عاطلاً.. أستعدي للسفر.. وسأقوم أنا بالاتصال بأحلام.. اتجهت نحو جهاز التلفون وهي تردد:
ـ إن لم يكن تلفونك عاطلاً..
ـ لا أدري.. لكني أظن أنه لا بد أن يكون عاطلاً.. فقد قصف قسم من بدالات بغداد منذ الأيام الأولى للعدوان.. واعتقد أنهم قد أجهزوا الآن على ما تبقى منها..
عادت أم سميرة باتجاه المطبخ.. وقفت عند فتحة الباب ومضت تقول:
ـ سميرة اسمعي.. اتصلي أنت بأحلام فأنا لا وقت لدي.. قولي لها أن تتهيأ للسفر، وقولي لها إن خالك يصرّ أن تأتي هي والصغار معنا..
بهتت سميرة.. فهي لم تعتد أن ترى أمها في حالة كهذه من الانفعال، وهي التي ما اعتادت أن تظهر لحظات ضعفها أمام الآخرين.. حتى أبنائها.. لكنها الآن لم تبق لابنتها ـ لشدة انفعالها ـ أية فرصة للكلام..
ـ اسمعي سميرة.. سأذهب الآن إلى بيت أم أروى.. إن لها رسالة معي وصلتها على عنوان الكلية حين كانت مجازة.. ولم أستطع أن أوصلها لها في حينه.. سأسلمها الرسالة وأعود إلى البيت..
وأضافت:
ـ أخشى أن يكون فيها شيء مهم.. لا يقبل التأجيل..
قاطعتها سميرة دون أن تفكر لحظتها بموضوع السفر..
ـ لكن أمي.. هل لديك وقود كاف في سيارتك؟
ـ أجل.. أجل ثم إن بيت أم أروى ليس بعيداً عن بيتي.. أعود بعدها فوراً إلى البيت آخذ حماماً وأهيئ ما نحتاجه للسفر..
استدارت لتغادر.. لكنها توقفت في منتصف المسافة لتقول:
ـ سميرة.. سنغادر صباح الغد.. بعد طلوع الفجر..
ـ ولكن...
وقاطعتها الأم:
ـ سميرة "الله يخليج" بلا ولكن.. وقولي لأحلام ألا تهتم بموضوع الأكل.. سأهيئ أنا كل شيء كي لا نضايق بيت خالك ولا نشعر نحن بإحراج.. يا لله.. يا لله سميرة.. لا تتأخري..
ومرة أخرى قاطعتها سميرة..
ـ أمي.. ولكن..
لم تترك أمها مجالاً لتتم ما تريد قوله.. واندفعت نحو الباب...
فغرت سميرة فاها وكأنها تريد بذلك أن تعبر دون أن تفكر، عن استغرابها مكررة بصوت هامس لا يكاد يسمع:
ـ بعد طلوع الفجر.. قبل طلوع الفجر.. ياه!
(((
حيرة مضنية شلت قدرتها على التفكير أو على اتخاذ قرار صحيح.. وأمامها طريق طويل.. طويل.. طريق مليء بالحفر.. بالأشواك.. بتكسرات وعقبات لا أحد يدري من أين يأتي.. متى.. وإلى أين المآل.. تجللها أجواء قد تشرق شمس نهاراتها وقد تخبو وراء غيوم دكناء.. ومطر.. وأعاصير هوجاء.. وعليها هي أن تسير وحيدة في دروب الحياة تشق السبيل أمام الصغيرين حتى يستطيعا الوقوف على أقدامهما.. ويواصلا المسير..
ماذا ينبغي أن تفعل.. وماذا يجب ألا تفعل.. لكن أملاً رهيفاً ظل يراوغها.. قد يتوقف العدوان ويعود السلام.. وتعود أنسام الصباح طرية.. ناعمة تشيع الحياة في أجساد أضنتها متاعب المسير.. وتزرع الأمنيات من جديد في نفوس جفت ينابيع الأمل في أعماقها في ما مر من سنين.. تجولت بعينيها بعيداً عن مجال الرؤية.. رياح الهجر تنوح نادبة الغِيِّاب الذين غادروا المدينة.. بيوت الحي خلت من ساكنيها وانطفأت الأضواء فيها.. الدكاكين مقفلة.. المخازن مقفلة.. ولم يعد هناك حانوت واحد تستطيع أن تحصل منه على ما قد تحتاج إليه من مواد غذائية.. واحتياجات بيتية.. الفرن القريب خبت نيرانه بعد أن غادر أصحابه المدينة.. ولو نفد ما لديها من مواد غذائية لتعين عليها أن تبحث عما تريد في مناطق أخرى خلت هي كذلك من كل ما يشيع دم الحياة في أوصالها.. وهنا ثمة مشكلة لا تقل فداحة.. وقود السيارات!
بدت بغداد التي كانت كعبة يؤمها الحجيج أفواجاً أفواجاً من كل فج عميق مدينة أشباح هاربة من ماضٍ سحيق يعج بالغيلان والسعالي.. أو أن زلزالاً قضى على كل ما كان يبعث الحياة فيها.. والعافية.. أبوابها مغلقة.. نوافذها مغلقة.. لا أنوار هناك.. لا ستائر ترتعش عند لمسة من نسمة رخية فترسم بارتعاشاتها أقواس قزح تنثر البهجة والفرح، كنثيث المطر، في القلوب المكلومة.. وأشجارها تشكو الظمأ ولا أحد هناك يعطيها قطرة ماء جفت في مآقيها.. مدينة مسحورة.. هجرها الأهل والخلان.. تنتظر وعد الله أن يعيد الحياة إليها.. متى؟! لا أحد يعلم! كان سكان بغداد يظنون أن مدينتهم وحدها.. وربما الموصل والبصرة، ستكون هدفاً للمعتدين.. ولم يكن يخطر ببال أحد أن مدن العراق كلها وقرى العراق كلها.. وبوادي العراق كلها.. وأكواخ الطين والقصب.. وحتى بيوت الشعر، ستكون أهدافاً للصواريخ.. إنهم يريدون تدمير العراق كله: مصانعه.. مزارعه.. مدارسه.. جامعاته.. مساجده.. كنائسه.. آثاره.. شواهد حضاراته.. مستشفياته محطات.. مائه.. كهربائه ووقوده ومجاريه.. كل شيء.. كل شيء في العراق.. ما كان.. ما كائن.. وما سيكون...
(((
نظرة وجلة ارتسمت في عيني الأم وهي تتطلع في ابنتها:
ـ سمير.. سميرة.. ما بك؟ أين سرحت؟
ـ لا.. لا شيء.. أنا هنا.. فقط كنت أفكر بموعد السفر.. بعد طلوع الفجر.. أمي!
أهذا معقول.. بعد طلوع الفجر؟!
ـ لم أكن أعني ذلك تماماً.. قصدت صباح الغد.. مبكراً..
ـ أمي أرجوك.. أسمعيني..
لم تدعها تكمل ما كانت تريد قوله.. قاطعتها بشيء من عصبية بادية في ثنايا الكلمات:
ـ قولي لي.. ماذا ننتظر هنا؟ أن تسقط القنابل العنقودية والصواريخ على رؤوسنا؟ إن هؤلاء قوم لا رحمة في قلوبهم.. ولا أخلاق تردعهم عن ضرب البيوت وقتل الأطفال.. لا دين لهم ولا مخافة الله.. إنهم يقصفون البيوت على رؤوس ساكنيها.. وأنت أعلم بهذا..
وقفت سميرة جامدة وقد أذهلها انفعال أمها.. فهي لم ترها أبداً في يوم من الأيام بمثل هذه الحالة.. حتى في أشد الظروف ضراوة.. كان الجميع يغبطونها على قدرتها على التماسك والتفكير الصائب في الأوقات العصيبة. ولم يكن أحد من معارفها أو أقربائها يتردد في طلب نصيحتها، إذا ما ألمت به مصيبة من مصائب الزمان.
ـ سميرة أسمعي.. أنا لا أستطيع أن أتصور أنني سأحتمل رؤية سعد.. هناء.. أو أبناء أحلام.. أو أي طفل آخر وقد انهارت السقوف على رؤوسهم الصغيرة. تأملي مشهداً كهذا.. ما الذي يمكنك أن تفعليه حينها؟ لقد مرت أيام على العدوان وهم يدمرون كل شيء تراه عيونهم.. والأطفال يا سميرة سيكونون بأمان في بستان خالك.
توقفت لحظة عن الكلام.. استدارت متوجهة نحو الباب وهي تردد:
ـ مع السلامة.. مع السلامة.
كانت سميرة حائرة.. يتجاذبها نقيضان.. أن تبقى وطفليها في بغداد.. وقد تصدق مخاوف أمها.. وتتساقط على رؤوسهم القذائف اللعينة.. أو أن توافق على اقتراح أمها وتلبي دعوة خالها.. بقيت صامتة لحظات وقد تسمرت في مكانها وغاب عن ذهنها للحظات سعد وفطوره..
عادت هناء إلى المطبخ لتكمل تناول فطورها.. تذكرت سميرة سعداً.. عادت هي الأخرى.. وفي رأسها سؤال واحد:
ـ ماذا أفعل؟
لكنها سرعان ما وضعت لحيرتها حداً.. ريثما تتوصل لحل يرضيها.. وهي تخاطب نفسها:
ـ خير لي أن أذهب إلى أحلام وأبلغها دعوة خالي.. بعد أن ننتهي من الإفطار..
"السفر..."
(2)
ـ كيف الحال أحلام؟
ـ لا بأس.. الحمد الله وأنت؟
ـ لا بأس.. لا بأس جاءت أمي صباح اليوم قالت إن خالي يدعونا جميعاً لزيارتهم..
ـ لكن أنا لا أستطيع ذلك..
ـ إن أمي مصرة على السفر.. إنها تخشى أن ينال الصغار أذى..
ـ هي محقة في ذلك.. لكن.. أنا والصغار ستة.. والسفر بالنسبة لي صعب.. صعب جداً..
ـ أنا في الواقع لا أريد الذهاب.. لكنها مصرة.. سنذهب لبضعة أيام.. لعل العدوان يتوقف.. فالوضع هناك، كما يقول خالي، أكثر هدوءاً.. إنها منطقة صغيرة.. قد تكون بعيدة عن ذاكرة المعتدين..
ـ لا.. لا أظن.. ليس هنالك من موقع واحد بعيد عن مخططاتهم.. وأنا لا أستطيع أن أترك أبا الأولاد وحده هنا.. ولا تنسي أننا ستة وأخشى أن نضايق بيت خالي، أو أن يسبب الأطفال ما يزعجهم..
ـ لا أظن ذلك.. فبيتهم واسع.. ومن المؤكد أن يمضي الصغار مع أولاد خالي النهار كله في البستان.. أنا شخصياً، كما قلت لك، لم أكن أرغب في الذهاب.. لكن بصراحة.. وضع سعد يقلقني.. إنه يتمزق رعباً أثناء الغارات على بغداد..
ـ هذه حال الأطفال كلهم..
(((
تذكرت سميرة ما جرى في الليلة قبل الماضية.. حين شرعت الطائرات بإلقاء حممها.. هب سعد من نومه.. راح يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه.. تيبس الدم في عروقه وبدا وجهه كقشرة ليمونة جف ماؤها.. وراح يصرخ ويبكي بصورة هستيرية.. ضمته سميرة إلى صدرها.. كان قلبه يدق كطبل أجوف.. ومع كل دقة يهتز رأسه بعنف.. وصدره يعلو ويهبط كمنفاخ حداد.. حتى ظنت سميرة إنه سينفجر.. وهناء.. تصبح هي الأخرى على حال من الخوف والجزع. بحيث أن الدم في عروقها يتحول إلى سائل بلا لون.. تبكي وتصرخ وهي تندفع نحو أحضان أمها:
((ماما.. أنا لا أريد أن أموت.. لا أريد سعداً أن يموت ولا أنت)).
كانت أحلام تصغي بألم ظاهر.. وتهز رأسها بين حين وحين وكأنها تريد أن تعبر عن رفضها لما كان يجري.. لتقول:
ـ أولادي أنا يصبحون على الحال ذاتها حين نضطر للبقاء في البيت وعدم الذهاب إلى الملجأ..
قالت سميرة:
ـ أسمعي أحلام.. إن خالي سيفرح بالتأكيد لو ذهبنا جميعاً خاصة ونحن لم نلتق به منذ زمن طويل..
ـ لكن.. كيف أترك صلاح وحده هنا؟
ـ إن صلاح لن يكون وحده.. قال لي مرة أنه سيكون في مستشفى الرشيد.. ثم إننا سنبقى هناك بضعة أيام.. وأنت يمكنك أن تعودي متى ما شئت لو وجدت إن الوضع غير مريح بالنسبة لك..
مرت لحظات دون أن تقول أحلام شيئاً.. ثم قالت:
ـ حسناً.. سأناقش الأمر مع صلاح حين يعود ظهراً.. وأخبرك..
(((
عادت سميرة إلى البيت وراحت تهيئ، على مضض، بعض ما تحتاجه، هي والأطفال من ملابس وحاجيات.. أعدت حقيبتين صغيرتين من حقائب السفر.. واحدة تضم ملابسها واحتياجاتها.. ووضعت في الثانية ملابس هناء وسعد وما يحتاجان إليه.. في الليل وضعت الحقيبتين في صندوق السيارة لكي لا تشغل نفسها عند الصباح اللاحق بأي شيء غير الفطور.. لكنها خرجت قبل ذلك، مصطحبة الطفلين معها، لشراء كمية كافية من الوقود.. في السوق السوداء.. إلا أنها برغم كل استعداداتها تلك.. كانت تتمنى، أن لا يوافق صلاح، زوج أحلام، على السفر إلى بعقوبة.. لكن أمنياتها خابت حين سمعت منبه سيارة صلاح.. خرجت مسرعة.. ووجهت حديثها إلى صلاح بعد أن تبادلت التحية..
ـ كنت أتمنى أن لا توافق أنت على السفر.. ليشجعني ذلك على البقاء في بغداد..
ـ لكن أمك، كما علمت من أحلام، مُصرة على السفر..
ـ هذا صحيح.. إلا أنني ما أزال حائرة بين نارين.. البقاء هنا أو مرافقة أمي.. مع إنني أعددت كل شيء..
انضمت أحلام لحديثهما:
ـ أنا أيضاً لم أكن أريد السفر، كما تعلمين.. لكن صلاح أقنعني..
قال صلاح موجهاً الحديث لأحلام:
ـ أنني سأكون أكثر اطمئناناً لو سافرتم.. أما أنا فسأقضي معظم الوقت.. بل كله.. في المستشفى.. وسأظل قلقاً لو بقيت وحدك والأطفال هنا.
ـ لنذهب إذن.. ونجرب الوضع هناك.. ونرى كيف تسير الأمور..
قالت سميرة:
ـ حسناً.. سأذهب أنا وأمي والصغار بسيارتي.. وإن أراد أحد من أطفاله الانضمام إلينا، فليأت..
ـ وأنا سأوصل أحلام والصغار ثم أعود إلى بغداد.. سأترك السيارة معكم وأعود بسيارة أجرة لألتحق بوحدتي.. وكل ما أتمناه ألا يسقطوا علينا قذائفهم ونحن في الطريق..
علقت سميرة:
ـ لكني لا أظن أنك تستطيع العثور على سيارة أجرة.. عد بسيارتك صلاح.. وإذا ما قررت أحلام العودة إلى بغداد.. سأعيدها أنا.. ثم أرجع إلى بعقوبة..
ـ لا.. لا.. إن هناك بعض سيارات الأجرة التي تعمل نهاراً.. أبو طارق أخبرني بذلك.. سأعود بواحدة منها..
"دعنا نذهب إلى البستان..."
كسبحة ألفية انتظمت خرزها، خرزة لصق خرزة، امتدت مع امتداد الشارع المنساب أمامها، صفوفٌ طويلة متراصة، لا ترى لها نهاية، من سيارات.. حافلات.. لوريات.. عربات يجر كل منها حصان واحد بانت عظامه من تحت الجلد.. وكل ما تيسر من وسائط نقل بدائية خشنة المظهر.. وقد اكتظت بحملها من الأطفال.. النساء الغارقات في سواد كلي.. والشيوخ وقد تكوموا أكداساً فوق أكداس، وهي تحاول أن تشق طريقها بجهد، وسط غيمة من غبار تُصَعِدُه السيارات التي تنحرف عن نهر الشارع.. لائذةً بالأرض الترابية المنبسطة على جانبي الطريق.. مستعجلةً الخلاص من بغداد ومن حمم النيران المنهمرة عليها من السموات والبحار البعيدة.. ودوي الانفجارات المرعبة.. أملاً في بلوغ ما ظنوه فراديس آمنة تحت سماء الله.. لم تكن غير سراب..
ببطء وصعوبة بالغة، كانت سميرة تحاول، في يوم الحشر ذاك، أن تتعقب سيارة صلاح وأحلام.. باتجاه بعقوبة.. وبرغم ذلك الزحام المرهق، والحرارة الخانقة المنبعثة من أبخرة السيارات ودخانها.. الذي يطبق على الصدر.. أنتابها شعور خفي أن حالة الرعب وما يرافقها من أحاسيس تمزق القلب خوفاً مما قد تأتي به اللحظات الآتية من انفجارات تزلزل الأرض بما عليها.. بدأت تتلاشى من قلوب هناء وسعد وسلام، بكر أحلام، الذي انضم إليهم.. كان الإحساس ذاته قد ملأ قلوب الصغار، سنار.. داليا.. مية.. ورشا، آخر العنقود.. والدتها أيضاً كانت تشعر بنوع من الارتياح وبامتنان ذاتي لأنها استطاعت أن تقنع سميرة وأحلام بالذهاب إلى بيت الخال.. فيما راح الصغار يمازحون بعضهم وهم على المقعد الخلفي في السيارة.. ويتبادلون نكات طفولية ساذجة.. تطلق من أعماقهم ضحكاً لـه رنين أجراس فضية..
(((
استقبلهم الخال وزوجته وداد بحفاوة بالغة..
وما إن توقفت السيارتان حتى اندفع الصغار نحو البستان..
وراحوا يتراكضون بين الأشجار والنخيل ويتقافزون فوق السواقي قبل أن يعودوا إلى بيت الخال عند الظهر..
(((
ـ لقد تأخرتم كثيراً.. خشيت ألا تأتوا.. قال الخال..
ـ كيف؟ قالت أم سميرة.. وأضافت:
ـ إن بغداد قد خلت من ساكنيها.. لم يبق فيها غير بضع عوائل والجيش والمدافعون عنها.. لكنه الزحام!! شيء لا يتصوره العقل!! حتى إنني لم أكن أتصور أننا سنصل إلى هنا في مثل هذا الوقت..
ـ حقاً خالي.. كنا نقطع مسافة متر واحد.. ونتوقف عشر دقائق أو أكثر..
(((
كان صلاح قد غسل وجهه ويديه ليزيل ما علق من غبار الطريق.. وقف إلى جانب الخال، يتطلع إلى البستان والخضرة المنبسطة.. وقد لاحت الأشجار وهي مثقلة بثمار لم يحن بعد موعد قطافها.. التفت إلى أحلام وقال:
ـ سأعود الآن إلى بغداد قبل أن تغيب الشمس..
ـ صلاح.. ابق معنا الليلة.. واذهب صباح الغد..
قال الخال ثم استدرك:
ـ اسمع صلاح.. سأصطحبك أنا غداً صباحاً إلى بغداد.. وأعود بعد ذلك.. إن هذا أفضل من أن تذهب الآن.. لا أظن أنك ستحصل على سيارة أجرة الآن.. إذ إنها تتوقف عن السفر منذ ما بعد الظهر.. بل اعتقد أنها قد توقفت الآن..
ـ أجل.. أجل هذا أفضل.. في القليل أنني سأعرف، بعد أن يعود خالي، أنك قد وصلت بسلام..
قالت أحلام وكررت:
ـ ابق الليلة معنا.. وغداً صباحاً.. توكل على الله أنت وخالي.. ولترافقكما السلامة..
(((
كانت وداد تنصت إلى ما يدور.. وتهز رأسها موافقة.. بين الحين والحين.. والمآسي التي تجرها الحروب وما تثيره من مصاعب وتعقيدات في حياة الإنسان ماثلة في ذهنها إذ قالت:
ـ لا أدري ما الذي يريدونه منا؟ ما الذي فعلناه لهم؟ نحن نعيش في بلدنا على بعد آلاف الأميال عن بلدهم.. فماذا يريدون منا؟
ـ نحن لم نفعل شيئاً للأمريكيين.. قال الخال.. إن هدفهم المعلن لم يكن غير كذبة.. أما الهدف الحقيقي فهو ما قاله شوارتزكوف، قائد القوات الأمريكية بصريح العبارة:
((جئنا كي نصحح خطأ ونعطي هذه الثروة لمن يستحقونها))
ـ عجيب! هكذا.. بكل بساطة وبدون حياء.. أو حتى مجاملة لأصدقائهم.. علقت وداد مستغربة..
ـ هكذا.. بكل بساطة..
ردد الخال مكرراً.. وأضاف:
ـ وبدون خجل أو مجاملة.. وبطبيعة الحال من أجل أمن العدو..
ـ أمن أجل هذا انضم العرب إليهم وسفحوا دمنا بدلاً من أن يصلحوا ذات البين؟... شيء لا يصدق! لا يصدق أبداً..
تدخلت سميرة موجهة الحديثة إلى الخال:
ـ أتدري يا خالي.. قبل أيام قرأت مقالاً لميشيل جوبير، وزير خارجية فرنسا الأسبق، يفصح فيه عما يدور في رؤوسهم لنهب ثرواتنا.. إنه يحدد أهدافهم بسيطرة:
((دولية على البترول، ابتداء بالإنتاج والأسعار وتقسيم أرباح هذا الاستغلال بين بلدان الشرق الأوسط)).
ـ هكذا إذن.. يوزعون أرباح نفطنا بين بلدان الشرق الأوسط،.. ((الشرق الأوسط))! لا البلدان العربية.. مثلاً..
علقت وداد وتساءلت:
ـ ولكن.. هل يقبلون هم أن نتقاسم وإياهم ثروات بلداهم؟
ـ لا.. بالتأكيد.. ثم إن البلدان العربية ليست هي المقصودة بتوزيع الأرباح.. ردت أحلام.. فعلق الخال:
ـ أكيد.. المقصود هو هم وحلفاؤهم الاستراتيجيون.. أينما كانوا.. في الغرب البعيد أو في وطننا العربي.. ليس هذا فقط.. فهم يريدون منا أن نلبس ما يصنعون.. ونأكل ما يزرعون.. ونستخدم في بيوتنا ما ينتجون.. ونتنقل من مكان آخر في ما يبدعون.. ونظل نحن رؤوساً خاوية.. وكروشاً منتفخة!!
ـ أتعلم خالي.. قبل فترة قرأت عن أبشع عملية غسل دماغ.. شيء خطير جداً ومضحك جداً..
كان الجميع يتطلعون إلى سميرة في انتظار ذلك الشيء الخطير جداً.. والمضحك جداً..
ـ كان ذلك في كتاب لكاتب اسمه.. اسمه.. لحظة:
وأخرجت من حقيبتها مجموعة من الأوراق:
ـ اسمه ديفيد كاما.. وعنوان الكتاب: ((الصراع.. لماذا وإلى متى)) حيث يناقش الكاتب استراتيجية إسرائيل تجاه الوطن العربي..
وأغرب ما في هذا الكتاب من المضحكات المبكيات.. إن الكاتب يعتبرنا نحن العرب غرباء في أوطاننا!!
كلسعة أفعى أو صعقة تيار كهربائي كان وقع ذلك الكلام المجنون.. إذ صاح الجميع بصوت واحد..
ـ نحن العرب غرباء في أوطاننا؟!!
ـ وهم.. هم أليسوا غرباء في أرض فلسطين؟!
تساءلت أحلام باستغراب وهي تتطلع في سميرة التي قالت:
ـ ليس هذا كل شيء.. اسمعوا.. اسمعوا ما يقوله هذا الديفيد:
((إن هناك وطناً واحداً للعرب عائداً لهم وليسوا غرباء فيه، ألا وهو الجزيرة العربية، أما بقية البلدان العربية التي يقيمون عليها الآن فليسوا سوى محتلين لها مسيطرين عليها ويقيمون إمبراطورية مغتصبة))!!
أنبرت أم سميرة مستهجنة:
ـ أية صفاقة هذه؟! نحن غرباء في أوطاننا.. وهم السكان الأصليون.. ألا يشعرون بشيء من الخجل وهم يكذبون.. ألا يتذكرون وصية الرب: ((لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تغدروا أحدكم بصاحبه..)) ألم يقل الرب ذلك؟
ـ بلى..
قالت سميرة..
ـ لكن ذلك ينطبق حصراً على القبيلة.. أما من كان خارج القبيلة.. الغرباء.. فهذا لا ينطبق عليهم.. وليت الأمر يقف عند الكذب.. فهناك ما هو أدهى وأعظم..
ـ أعظم من هذا؟!
أنبرت أحلام مستهجنة..
ـ أجل.. إنهم يطالبوننا بالرحيل عن أوطاننا!!
ـ لا شك في أن هذا الكاتب مخبول..
علقت وداد... فيما قالت أحلام..
ـ عجيب أمر هؤلاء.. إنهم لا يكتفون باغتصاب أرض فلسطين.. وطرد أبناء شعبها من قراهم وبلدانهم وبيوتهم.. وإنما يملكون الجرأة...
قاطعتها سميرة:
ـ أجل يا أحلام.. إنهم يملكون الجرأة ليطالبونا..
وتوقفت سميرة.. ثم قالت:
ـ سأقرأ لكم هذا السيل من الجنون:
((إن الوطن العربي يقوم على أساس احتلال العرب لأراضي الكثير من الشعوب التي قهرت وأجبرت على الذوبان ضمن العرب.. ويجب أن نطالب الأمة العربية بالعودة للعيش في المنطقة كشعب من بين غيره من الشعوب.. لا كحاكمة على بقية الشعوب، وعليها أن تتوقف عن غطرستها وتتنازل عن حقوقها السياسية الزائدة.. إذا كانت تريد العيش هنا في المستقبل بطمأنينة وسلام))!!
ـ أي هراء هذا؟!
علق الخال..
ـ خالي.. إن هذا الكاتب لا يتوقف عند هذا الحد من الهراء والتزوير التاريخي.. والتهديد.. وإنما ينتقل إلى الدور الذي على إسرائيل أن تلعبه في إثارة المشاكل بالعزف على وتر الأديان والطائفية والقوميات..
ـ ليس المهم ما يقوله هذا الكاتب أو غيره.. المهم أن يقرأ القادة العرب هذا وغيره مما يقوله هؤلاء.. لعلهم يصحون في يوم من الأيام.. ليقفوا بوجه ما يدبر للعرب في الخفاء وفي العلن.. دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم ومستقبلهم.. وإذا كانوا غير قادرين على ذلك.. فليتنحوا عن كراسيهم المقدسة.. ويدعوا أمور الحكم لغيرهم ممن يريد ويستطيع أن يدافع عن شعبه ومصلحة وطنه..
كانت سميرة وأمها وأحلام.. ووداد وكذلك.. يهززن رؤوسهن موافقات على ما قاله الخال الذي أضاف:
ـ دعونا الآن من هذا الهراء الذي يزيد الغم غماً.. لكن دعوني أقول لكم شيئاً أجمل.. ما رأيكم أن نقوم غداً.. بل بعد غد.. بجولة في البستان ونتناول الغداء هناك؟
هب الصغار مصفقين:
ـ أجل.. خالو.. دعنا نذهب إلى البستان.. دعنا نذهب إلى البستان...
"الواقعة..."
ثلاثة أيام مضت.. كانوا سعداء جميعاً.. هدوءٌ وخضرةُ بستانٍ زمردية.. النخيل وأفياؤها المتماوجة.. تلوح من بينها شموس برتقالية صغيرة ترش الفرح ابتسامات على الوجوه، وهي تتأرجح كلما مستها نسمة تحمل معها رائحة البرتقال والنارنج وزهر الرمان والليمون.. ورائحة عشب ندية.. كان ذلك كله يشيع في أعماقهم هدوءاً وإحساساً بالأمان برغم الأسى الذي لا يفارق أرواحهم.. وبغداد تنهمر عليها القذائف كالمطر...
وكان صباح.. وكان مساء.. وذهب الجميع إلى أسِرَّتهم.. لم يمض وقت طويل حتى بان فيض من سلام روحي يطوف على وجوه الصغار وهم نيام معلناً موت الخوف في القلوب.. لكن.. ولكن هذه، كعهدها على الدوام، تجد منابت لها على تخوم الفردوس.. إذ لم تكد عقارب الساعة تؤشر الثانية بعد منتصف الليلة الرابعة.. حتى كان الزلزال العظيم.. كل شيء من حولهم راح يتفجر براكين هائجة تلقى بحممها في الجهات الأربعة.. الأرض ترتج.. الجدران تتفطر.. الزجاج يتكسر متطايراً ليتساقط على الأسِرَّة.. على المقاعد.. على الأرض.. على الرؤوس فيدميها.. باعثاً في الجو هسهسة كصليل السيوف.. دوي مروع يهز المدينة.. والسماء تشتعل بصواريخ تجر وراءها ذيولاً من نار.. الطائرات تمطر حمولتها من القنابل ومتفجرات لم ير البشر.. في كل حروبهم.. مثيلاً لها.. كان مشهداً حياً من مشاهد حرب النجوم..
غبار.. رماد.. سخام.. حصى.. مزق نايلون.. عيدان.. أشواك.. خرق بالية.. نفايات بلاستيكية.. وكل ما تنأى به الطبيعة عن الصعود من سافل القيعان.. تصاعد في الجو ومع عصف الانفجارات.. انطفأت الأضواء.. وحلَّت الظلمةُ على الأرض.. سواد كلي لف المدينة.. خلا ما يشع في العلا... وما تبعثه على الأرض الحرائق.. وعم الخراب كل ما كان يصنع الحياة في المدينة.. البيوت.. المدارس.. المستشفيات.. المساجد.. المعامل وورش الحدادين.. محطات الطاقة والماء.. البساتين والحدائق.. حرائق.. حرائق في كل زوايا المدينة..
قفز الصغار رعباً من أسِرَّتهم.. علا بكاؤهم وصراخهم.. وهم يتدافعون في الظلام بحثاً عن أحضان تحميهم.. ومع شعاع شمس الصباح الأول.. توقف الزلزال.. بقايا ترسبات خوف ارتسمت على الوجوه الشاحبة.. وكانت أم سميرة أكثرهم وجوماً.. فهي التي جاءت بهم إلى المحرقة.. يشاركها الخال ذلك الإحساس المر بالذنب..
بعد أن أشرقت الشمس، خرج الخال ليتفقد البستان.. هاله ما رأى.. لم يبق من الطرف البعيد منه، غير أكوام من الرماد تتوهج من خلاله جذوع النخيل وأشجار البرتقال والنارنج والليمون.. وأشجار الرمان.. ألسِنة لهب تتصاعد نافرةً من بين الرماد.. والفلاحون يحاولون إخمادها.. وفي مواضع متفرقة ترقد جذوع نخل بتيجانها السعقية.. وأشجار اسْوَدَّت أغصانُها وغدا ما تحمله من ثمارٍ،.. كانت تبعث المسرة في النفوس الحزينة.. فحماً ورماداً.. وانتشرت في الجو رائحة شواء لحم طيور محترقة وخراف.. تناثرت أشلاء هنا وهناك.. فيما كانت أعمدة الدخان تتصاعد نحو السماء..
في البيت.. نهضت وداد لتهيئ الشاي وتعد الفطور.. تبعتها سميرة لتساعدها.. أما أحلام.. فكانت قد قررت أن تعود إلى بغداد..
ـ ولكن..
قالت وداد:
ـ ستكونين هناك وحدك.. حقاً إن الوضع هنا ليس أفضل مما هو هناك، على ما يبدو، لكن هنا.. سنكون جميعاً سوية.. وكل واحد منا يشد أزر الآخر..
ـ صحيح.. ولكن ليلة أمس، احترق نصف البستان.. من يدرينا أن النصف الثاني.. وربما البيت معه سيحترق ونحن فيه نيام.. عليه ألا يحترق الليلة أو أية ليلة قادمة؟! إنني أحمل على عاتقي خمسة أرواح صغيرة.. هي أمانة في عنقي.. عليّ أن أحافظ عليهم.. وفي بغداد أستطيع أن أفعل ذلك.. هناك.. آخذهم إلى الملجأ.. كما كنت أفعل كل ليلة لم يكن صلاح فيها معنا.. وكنا نجد الأمان في الملجأ.. أما هنا فما الذي أستطيع فعله لأحافظ عليهم؟
مرت لحظات.. سادها صمت وَجِل.. وحيرة أوصدت كل منافذ الأمل.. انتقلت سميرة بعينيها في الوجوه.. واستقرت على وجه أمها التي انضمت إليهم، يحدوها أمل أن تجد في حكمة السنين التي عاشتها ما يلهمها ويقود خطاها نحو الطريق الصحيح.. التفتت إلى أحلام.. ثم قالت:
ـ اسمعي أحلام.. لا أحد يدري ما الذي سيحصل هنا أو في بغداد..
وكادت تقول ((أو في الملجأ) لكنها أمسكت عن ذلك.. فهي تعلم أن الملاجئ، في كل بقاع الأرض، محمية بقوانين دولية.. وإنما قالت:
ـ إن كل واحد منا هو الذي يتحمل مسؤولية قراره.. نحن لا نستطيع أن نرغمك على البقاء هنا أو العودة إلى بغداد.. فالمرء لا يدري ما الذي سيحل به.. هنا أو في أي مكان آخر.. في هذه الظروف اللعينة.. بعد أيام.. بعد ساعات.. أو حتى بعد لحظات.. أما نحن فأُمي تفضل البقاء هنا مع خالي.. وسأظل أنا معها إذ لا أستطيع أن أتركها وحدها.. ربما سنبقى بضعة أيام أُخَرْ نعود بعدها إلى بغداد.. ولكن أتمنى لو تركت رشا معنا.. عسى الله أن ينجينا جميعاً من شرورهم..
ـ لكني لا أستطيع الافتراق عن رشا حتى لحظة واحدة..
ـ ثقي يا أحلام.. إنني سأرعاها واهتم بها أكثر مما تهتمين بها أنت..
قالت سميرة.. وثمة إحساس مبهم لا تستطيع أن تدركه كوامنه أو بواعثه يثير في نفسها رغبة ملحاحاً في استبقاء رشا.. بل وحتى العائلة كلها..
ـ أنا واثقة من ذلك سميرة.. لكن صدقيني أن الملجأ أكثر أمناً من بعقوبة.. ورشا.. أنت لا تتصورين مدى السعادة والفرح اللذين تشعر بهما في الملجأ.. فالصغار الذين يأتون مع أمهاتهم يداعبونها حتى تنام..
كانت سميرة تنصت وثمة إحساس بالاقتناع باد على محياها يخالطه قلق مراوغ فيما راحت أحلام تتحدث عن الأجواء التي تغمر ذلك المكان الأمين بعيداً عن صواريخ كروز وتوماهوك.
ـ تصوري سميرة.. إننا جميعاً نشعر كأننا عائلة واحدة..
ـ أكيد.. فهذا شعور طبيعي في مثل الحالة التي نحن فيها.. إن الإحساس بالخطر يشد الجميع إلى بعضهم بلا استثناء دفعاً لما قد يأتي به..
ـ صحيح.. فهناك المئات من الناس في الملجأ.. لكن المرء لا يشعر أنهم غرباء معظمهم يرى بعضهم البعض للمرة الأولى.. فإذا شكا أحد من صداع مثلاً هرع الآخرين ليقدموا لـه حبة باراسيتمول أو أسبرين.. وإن أصاب أحد ما مغص أو أي ألم ترين الجميع يندفعون لتقديم أية مساعدة ممكنة لكي يخفف عنه الألم..
ـ حقاً إنها مشاعر رائعة.. علقت وداد.. وأضافت.. وهي ليست وليدة الظروف الحالية وإنما هي متأصلة فينا نحن الشرقيين.. لكنها تتأكد في مثل هذه الظروف.
ـ أكيد.. تصوري أن هذا الحشد الهائل من الناس وقد تفرقوا في مجموعات.. منهم من يلعب الدومينو.. ومنهم من يلعب النرد.. وآخرون الشطرنج.. أو الورق.. والمشجعون لهذا الفريق أو ذاك يملؤن الدنيا صخباً وتصفيقاً وكأن الدنيا سلام ما بعد سلام... ولا حرب كونية هناك تشعل النيران من حولنا وتزرع الموت في زوايا المدينة...
ـ ولكن.. كيف تتدبرون أمر الطعام؟ سألت وداد:
ـ حين يحل وقت العشاء ترين الجميع يشتركون في تناول أصناف الطعام الذي تجلبه العوائل معها.. والحلويات.. والكرزات.. إنه ليس ملجأ.. بل يمكنك أن تقولي مهرجان.. أو احتفالية..
قالت سميرة:
ـ حقاً هذا ما أخبرتني به أم أروى إذا التقيتها قبل أيام في المخزن الوحيد الذي يفتح في الحي مدة ساعتين قبل الظهر.. كانت تحاول الحصول على بعض الخضر لإعداد طبق تأخذه إلى الملجأ.. كما قالت.. ودعتني للذهاب تلك الليلة إلى الملجأ.. لكني اعتذرت إذ كان علي أن أنجز بحثاً وكنت بحاجة لبعض المراجع في مكتبتي..
ـ آه صحيح.. نسيت أن أخبرك أن أروى قد خُطبت وفي الملجأ نفسه!
ـ في الملجأ؟! جميل..
قالت سميرة مندهشة.. وأضافت:
ـ ولمن؟
ـ لابن خالة صلاح.. كان يوصل أمه وشقيقتيه.. ورأى أروى.. وكانت تلك القصة الخالدة.. قصة آدم وحواء.. نظرة.. فابتسامة..
والتقطت سميرة رأس الحكاية وأكملت:
ـ فكلام.. فموعد.. فلقاء..
ـ وقد احتفلنا في الملجأ بخطبتهما..
ـ ربما كان ذلك في الليلة التي دعتني فيها أم أروى.. أتمنى لهما حظاً سعيداً..
ـ وقبل أسبوع احتفلنا في الملجأ أيضاً.. بعيد ميلاد رشا الأول.. كانت ليلة من أبدع الليالي.. لقد أعددت كيكة العديد منذ الصباح.. وكان الأطفال يغنون ويرقصون على إيقاع أشرطة غنائية أحضرتها أم أروى مع مسجل صغير.. كان مكانك خالياً.. أنت والصغار..
ـ وقد غضب سعد وهناء لأنني لم اصطحبهما إلى الملجأ تلك الليلة للاحتفال بهذه المناسبة.. تصوري أحلام.. إنهما يتذكران أيام ميلاد كل أصدقائهما.. وبالطبع أعياد ميلاد قبيلتك.. أطال الله في أعمارهم.. جميعاً..
ـ أسمعي سميرة.. أنا أقترح أن تأتي أنت والصغيرين.. وأمي كذلك.. إلى الملجأ بدلاً من البقاء هنا.. ويا حبذا لو رافقنا خالي.. وأسرته..
ـ أوه.. خالي.. إنه يُصر أن نقضي بضعة أيام أُخَرْ.. معهم.. ربما لن يتكرر ما حدث الليلة الفائتة.. وهنا.. وعلى الرغم مما حدث.. فإنني أشعر أننا لم نكن وحدنا أثناء الغارة.. إن روح الجماعة توحي لي بشيء من الاطمئنان.. حتى وإن كنت لا أستبعد أن يسقط البيت على رؤوسنا ونحن في أسرتنا نيام.. إنه فقد الإحساس بحِمى الجماعة..
ـ كما تشائين..
ـ على كل حال.. سنبقى هنا بضعة أيام نعود بعدها إلى بغداد.. وقد ننضم إليكم في الملجأ.. بعد أن أنهي بحثي.. لكنني أكرر رجائي أَن تبقى رشا معنا.. إن هناء وسعد يحبانها كما لو كانت معبودة صغيرة.. وهما لا يكادان يتركانها لحظة واحدة..
ـ لا بأس.. دعي رشا معي الآن.. وإن فكرتِ في المستقبل بالعودة إلى بيت الخال بعد رجوعك إلى بغداد.. يمكنك أن تأخذي الصغار كلهم.. وليس رشا فقط..
ـ حسناً.. لك ما تريدين.. ولكن متى ستعودين إلى بغداد؟
ـ اليوم.. سأغير ملابس الصغار.. وأعيد ترتيب الحقائب ثم نسافر..
خرجت الأم عن صمتها وقالت:
ـ أبقي معنا حتى الظهر.. وبعد أن نتناول الغداء يمكنك أن تعودي.
كان الأطفال يراقبون بصمت.. ولكن حين طلبت الجدة من أحلام أن تبقى حتى الظهر، كان ذلك أشبه بحافز ليطلق ما كان كامناً في قلوبهم الصغيرة من أمنيات..
ـ أجل.. أجل.. لنبق حتى الظهر..
التفتت أحلام إليهم.. ارتسمت على وجهها ابتسامة شفيفة تفيض حناناً وهي تطوف ببصرها في وجوه الأطفال الواحد بعد الآخر.. حتى إنهم ظنوا أنها قد وافقت.. التهبت وجوههم فرحاً.. وصدرت عنهم همهمة التُقِطَت منها كلمة شاردة: ((وافقت.. وافقت)) ولكن كيف يغيب الماء في أرض عطشى.. سرعان ما خبت الفرحة في قلوبهم إذ التفتت أحلام إلى أمها لتقول:
ـ لا يا أمي.. أفضل أن نبدأ الرحلة الآن.. أقصد بعد قليل..
ومالت برأسها نحو الأطفال كأنها توجه الكلام إليهم..
ـ أخشى أن يبدؤوا غاراتهم من جديد..
ـ والليلة الآتية.. أتقضونها وحدكم؟ إن صلاح سيكون، كما قال، في المستشفى.
ـ لا لن تكون وحدنا.. سآخذ الصغار ونذهب إلى الملجأ..
وعلى غير إرادتها، تسللت من صدر الأم آهة مفعمة بشجنٍ تجمد في أعماقها لطول ما غفا بين ضلوعها.. ثم قالت:
ـ الأمر لله.. رافقتك السلامة..
قالت ذلك وثمة إحساس خفي بالشعور بالذنب كان يمزق قلبها..
لكن ذلك الشعور سرعان ما كان يغالبه إحساس بشيء من الرضا دون أن تدرك ما الذي كان يبعث تلك الأحاسيس المتضاربة.. أكان إحساسها بالذنب ناجماً لتركها بغداد التي عاشت فيها العمر كله.. وقذائف الموت تنهمر عليها كالمطر؟ ولكن ما الذي كان بمقدورها أن تفعله؟ لا شيء.. لا شيء أبداً.. أكان لأنها كانت السبب وراء ما شهدته أحلام الليلة الفائتة وهي التي اعتادت أن تجد الأمان في الملجأ؟ لا تدري.. ثم.. أكانت الليالي الهادئة الثلاث ولقاؤها بأخيها بعد فراق طويل مصدر إحساسها بالرضا؟ ربما.. وبرغم كل تلك الفوضى المتصارعة التي تعصف برأسها.. بين الذنب وبين الرضا، ثم إحساس مبهم كان يثير في نفسها خوفاً خفياً قد تأتي به الأيام الآتية...
(((
سرحت سميرة بنظرها عبر النافذة بين قمم النخيل التي نجت من الحريق.. ارتعاشات وريقات السعف تلونها إشعاعات شمس الصباح بلون ذهبي.. ثمار أشجار البرتقال والليمون والنارنج المتبقية وهي تتراقص في ظلالها..
أزاحت ما كانت تحس به من هموم على قلبها.. سافرت بعينيها من نخلة لنخلة.. وأمنية واحدة تطوف في ذهنها...
ليت أحلام تظل وصغارها معنا..
(((
وقفت سميرة وأمها.. والخال ووداد.. عند بوابة البستان..
وهم يلوحون بأيديهم مودعين أحلام وصغارها.. فيما راح سعد وهناء وأولاد الخال يركضون وراء السيارة وهم يلوحون لسلام.. وسنار.. ومية وداليا.. الذين تكوموا في المعقد الخلفي.. ملوحين بأيديهم من وراء زجاج النافذة الخلفية.. والابتسامات تضفي على وجوههم ألقاً ينافس ألق شمس الصباح..
بعد أن اختفت سيارة أحلام في منعطفات الطريق.. عاد الصغار وقد اشتعلت خدودهم ورداً جورياً..
"وكان فجر العامرية.."
صباح اليوم اللاحق انتشر انتشار النار في الهشيم نبأ هز العراق من أقصاه إلى أقصاه..
((لقد قصفوا ملجأ العامرية))
لم تصدق سميرة ولا أمها ولا الخال ولا وداد.. ذلك النبأ المُروِّع..
كيف يقصف ملجأ لا يضم غير المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ... إن القوانين الدولية تحرم مثل هذا العمل الهمجي.. لكن فلسفة العدوان تقول مثلما تسقط الصواريخ على البيوت لتدمرها وتقتل من فيها.. أو على بيوت الشعر في البوادي.. يمكن أن تسقط على الملاجئ..
راحت أم سميرة تنحب وتكرر الدعاء.. رحمتك يا رب.. أرجو ألا تكون أحلام وصغارها قد ذهبوا الليلة الماضية إلى الملجأ.. أرجو أن يكون صلاح قد قضى الليلة الفائتة في البيت.. يا رب.. لا منجد لي غيرك.. فيما بدأت سميرة، والقلق يعصر فؤادها، تساعد هناء وسعد في تغيير ملابسهما.. وتعيد حقيبتي حاجياتها وحاجيات الطفلين.. وكذلك حقيبة والدتها إلى صندوق السيارة على عجل.. استقلوا السيارة جميعاً.. استقل الخال ووداد سيارتهما واتجهوا إلى بغداد.. والدموع لا تتوقف لحظة واحدة عن الانهمار من عيني الأم طيلة الطريق.. ودعاء صامت يرتفع إلى السماء.. يا رب رحمتك.. يا رب أنت المستعان.. ولا معين غيرك..
دمعة آسية كانت تلوب في عيني سميرة يلوح من خلالها ويخبو أمل يائس.. لعل أحلام لم تذهب إلى الملجأ.. لكنها قالت إنها ستذهب والصغار.. ربما عاد صلاح إلى البيت.. وهو حين يكون في البيت لا تذهب أحلام إلى الملجأ.. ولكن.. كيف يستطيع العودة إلى البيت في هذه الظروف وهو طبيب عسكري عليه أن يكون في المستشفى كل الأوقات؟! علَّ أحلام وصغارها قد نجوا من المحرقة.. وتنبعث في ذهنها عبارة قالتها:
((لا يمكنك أن تقولي.. ملجأ.. بل مهرجان أو احتفالية))
تُرى.. ما الذي حل بهم.. داليا.. مية.. سلام.. وحبة العين رشا التي لم تكد تجتاز عتبة السنة الأولى.. ماذا بشأنها.. ما الذي حصل لها.. كانت تحبو نحوي مجتازة كل ما يقف في طريقها.. تناغي كحمامة.. كأنها تريد أن تقول شيئاً.. تتشبث بي.. بأذيال ملابسي.. تحتضن ساقيَّ وهي ترفع رأسها إليَّ.. ((ألا ترفعيني)) وحين أحملها.. تلصق خدها بخدي.. تمد سبابتها الصغيرة في عيني.. في فمي.. في أنفي.. أبعد سبابته الصغيرة عن وجهي.. فتبتسم.. إيه يا رشا.. أين أنت الآن؟!
كانت أطيافهم تروح وتجيء أمام ناظريها وهي تقود السيارة بأسرع ما تستطيع مستعجلةً الوصول إلى بغداد.. أكان ذلك نداء القدر الذي لا رادَّ له.. هل أتجاوز حدود الأمل لو تمنيت على الله أن ينجيهم هم وجميع من كان في الملجأ؟ كيف؟ أأطلب المستحيل.. يا رب.. أنت قادر على كل شيء.. ارفق بنا وبهم..
(((
حين وصلت بغداد اتجهت فوراً نحو ملجأ العامرية.. كتل متراصة من دخانٍ أسود كثيف حجبت عين الشمس، كانت تتدحرج متصاعدةً، تنطلق من بين ثناياها السنة لهب تسابق الريح وهي تتلوى في الجو كالأفاعي.. دفقات من حرارة حارقة كانت تلسع وجوه الحشد المستمر بعيداً عن الملجأ والجزع يتدفق من العيون.. انخلع قلب سميرة.. ترى أين هم الآن في هذه المحرقة.. أذابوا كلهم؟! احترقوا؟! وفي لحظات الرعب تلك، ماذا قالت أرواحهم؟ كيف جابهوا الحرائق والنيران وعصف الصواريخ والموت؟! أماتوا كلهم مرة واحدة؟ يا لعذابهم.. ويا هول ما جرى.. لكن لِمَ استعجل الأمور؟ ربما لم تذهب أحلام.. ولم تأخذ الأحبة الصغار.. سأذهب إلى بيتها.. قد تكون هناك.. استدارات.. وإذا بها وجهاً لوجه أمام صلاح.. وابن خالته، خطيب أروى، ووالد أروى.. والرعب يندلق من عيونهم.. فهمت كل شيء.. إذن.. أحلام وصغارها.. أروى.. وأم أروى.. وأهل صلاح.. كلهم كانوا هنا.. في العامرية..
وراحت تنوح بصمت وتلطم رأسها بكفيها والدموع تتدفق من عينيها.. وجرح عميق ينز في قلبها دماً.. قبل أيام قلائل.. احتفلوا بعيدها الأول.. ماذا حل بك يا رشا.. حبيبة قلبي..
انكمش الجلد.. تشقق وتمزق.. ذاب اللحم.. ذابت العظام واستحالت رشا بخاراً تاه وسط العصف والنار والدخان والدم.. لم يبق منها شيء.. من جسمها الطري.. لا أشلاء.. لا أيدي.. لا سيقان.. رشا الحبيبة صارت بخاراً..
أواه يا رشا.. كيف أحتمل جسمك الغض كل هذا الهول؟! وأحلام؟
أحلام؟ انفصل الرأس عن الجسد بنصل شظيةٍ من فولاذ. لفته غيمة من دخان أسود متكثف تلتمع من خلاله نصال نار وشرار.. ارتطم الرأس بجدار الملجأ قبل أن يستحيل صورةً شبحية متفحمة انطبعت على الجدار تحف به ظلالٌ سوداء.. ربما هي وجوه داليا.. مية.. سنار.. وسلام.. والموت يطل من عيونهم الحزينة المرتسمة على الجدار.. أجساد ذائبة امتزجت بصهير الفولاذ وذوب الأكف والأيدي والرؤوس.. بالجثث المقطعة.. بالدم.. بالقيح.. بالحياة التي أزهقت في كل زاوية.. في كل منعطف وممر.. كلهم.. كلهم صاروا بخاراً.. هلاماً أو دخاناً تصاعد نحو سماء خرساء..
وسنار؟ قيثارتي الجميلة.. سنار التي كانت تتباهى باسمها الغريب.. ورفيقاتها وصديقاتها في المدرسة كن يسألنها:
ـ معنى سنار؟ أهي كلمة عربية؟
ـ لا أدري.. يوماً سألت أمي: ماما.. ما معنى اسمي.. سكتت متحيرة.. ثم قالت: لا أدري.. أبوك اختار اسمك.. قال إن لـه رنيناً موسيقياً.. كنغم ينساب من قيثارة سومرية..
(((
حكت لي سنار يوماً هذه الحكاية وهي تكاد تموت ضحكاً.. حتى إنني ضحكت لضحكتها المنسابة من قيثارة سومرية.. والتي تشبه العدوى.. فحين تضحك سنار.. يضحك كل من كان بالقرب منها دون أن يعرف سبباً لضحكتها الحلوة التي تنساب كساقية رقراقة من فضة وذهب..
ـ خالتي.. أنا سنارة!
تساءلت وقد أخذني العجب:
ـ صنارة؟! كيف؟!
قالت:
ـ أجل.. أنا سنارة...
ـ قولي لكيف صرت صنارة؟!
ـ صديقتي رُلى قالت إنها تعرف ما معنى سنار. فقلت لها، أنا وصديقاتي، كيف عرفت؟ قالت:
ـ سألت أمي ما معنى سنار؟ بهتت أمي ثم ضحكت وقالت: إنه على وزن منار أو فنار.. ربما كان ((سنارة)) فحذفوا تاءها المربوطة، وصارت ((سنار)) هذا كل شيء.. ولكن لِمَ لم يسموها منار مثلاً أو فنار؟ قلت لا أدري.. إنها سنار...
(((
أين أنت الآن يا سنار.. أهلاماً صرت أم بخاراً.. أم غباراً...
(((
وفي فجر العامرية.. كانت حكايات.. وحكايات.. وترانيمُ صمتٍ تفيض بها الدموع.. حزينةً كانت عصافيرُ فجرٍ لم يأت لـه صباح.. ملتاعةً بلابل العامرية.. وفراشات تبكي زهوراً تسربلت برمادٍ يشع بدل العطر موتاً وفناء.. وعلى أنينٍ سرى في الأرض كمداً.. أفاق الشجر أسيان تهفهف أوراقه شجناً شجياً.. وفي ذلك الفجر.. فجر العامرية لم تشرق الشمس أبداً.. أبداً.. أبداً..
زرافات.. زرافات... تعد ألفاً ومئات خمساً قد تزيد أو تنقص قليلاً.. جاءوا قبل أن تذوب الشمس عند أفق العامرية.. تُردِدُ الشوارع همس حكاياتهم.. رنين ضحكاتهم.. وحكاياتِ حب تزهر خفاقةً بين الضلوع.. وتحمل منهم أثار أقدامٍ تسارع الخطو نحو العامرية.. هرباً من الموت نحو الفناء.. حاملين معهم من المأكل والشراب ما يصل بهم مطلع شمس يوم آتٍ.. وفي الدروب التي ساروا عليها.. ترك الصغار أصداء ضحكاتهم الغضة.. وحكاياتٍ بريئة عن قلائد من زمرد و ياقوت وبلور وزجاج ملون.. وخواتم تناغي أصابعهم الطرية.. وعن أساور وكراتٍ ولعبٍ وشرائطَ شعر خضر وزرق وبيض وحمر.. وقراصاتٍ من نرجس وياسمين تتلألأ في شعورهن كما النجوم في ليلة دهماء غاب عنها القمر... وأعيادِ ميلاد ستأتي بأفراحٍ وهدايا وأحلامٍ تزوغ عاماً بعد عام في زوايا السنين الآتيات...
في ذلك المساء... دخلوا أفواجاً أفواجاً.. بطن الحوت.. وانغلقت الأبواب.. وتناثرت الكلمات والحروف.. والبسمات تطوف على الوجوه.. وحكايات عن الماضي السعيد.. وعن الغد الذي ظنوه آتٍ بأحلى الأمنيات.. وجاء الليل ومضى.. إلا من وقيدٍ يشعل النار في ليل بغداد ناثراً الموت بلا قيود.. بلا حساب.. بلا حدود.. وقبل الفجر.. قبل أن تزقزق العصافير.. وقبل أن تشدو البلابل.. جاء نذير الموت ممتطياً صهوة صاروخٍ يحمل على متنه احتضارات جنون التكنولوجية...
وفي فجر العامرية.. قامت القيامة في بطن الحوت.. ارتجت الأرض.. وانشقت السموات.. وانطبقت الأبواب فما عاد هناك من يقدر على فتحها من الإنس أو الجن أو الملائكة الأبرار.. ليسيح الموت كما يشاء والنار كما تشاء.. واللهب كما يشاء..
سدف من دخان أسود تتدحرج صعوداً نحو السماء.. زئير وعصف مدو.. وحقد ونفط وصهير فولاذ يجرف بذوبه الدافق أشلاء ممزقة ورؤوساً تفحمت لا أحد يعرف أي جسد كان يحملها.. أكفاً مهشمة.. بقايا أجساد مقطعة استحالت ذوباً اختلط بنجيع الدم المراق في العامرية.. ثمة أيد استطاعت، في ذلك الجحيم.. أن تصل الأبواب..
وراحت تدق الأبواب.. تدق الأبواب.. دون مجيب.. حتى أخرسها موت جميل حمل على نصاله مباهياً:
بشائر صمت الأبدية...
ولم يبق في العامرية غير بيوتٍ خلت من ساكنيها وأخرى يطوف في حناياها أنين وآهات تنز أسىً في ذلك العماء.. وعيون تسح دماً وذكريات تأبى الرحيل وهي تلملم العذاب والأسى في ذلك الفجر الحزين.. فجر العامرية الذي لم تشرق الشمس في سمائه أبداً.. أبداً...
- hannah-montanaعضو فعال
- الجنس : عدد المساهمات : 404 نقاط التميز : 660 تقييم العضو : 5 التسجيل : 14/02/2010 العمر : 28 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الخميس مارس 11, 2010 6:23 pm
- barcaعضو محترف
تمت المشاركة الخميس مارس 11, 2010 10:04 pm
التوقــيـــــــــــــــــــــع
فداك أبـــــــــ يا رسول الله ــــــي وأمي
معلوماتـــ مهمة:
تنبيــه!! [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
- فراسبيتوعضو محترف
- رقم العضوية : 3079
الجنس : عدد المساهمات : 7200 نقاط التميز : 10794 تقييم العضو : 40 التسجيل : 28/01/2010 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الأحد مارس 14, 2010 12:20 pm
التوقــيـــــــــــــــــــــع
- hannah-montanaعضو فعال
- الجنس : عدد المساهمات : 404 نقاط التميز : 660 تقييم العضو : 5 التسجيل : 14/02/2010 العمر : 28 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الأربعاء مارس 24, 2010 11:18 pm
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى