استعرض الموضوع التالياذهب الى الأسفلاستعرض الموضوع السابق

معراج الألـف Empty معراج الألـف

فراسبيتو
فراسبيتو
عضو محترف
عضو محترف
رقم العضوية : 3079
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 7200 نقاط التميز : 10794 تقييم العضو : 40 التسجيل : 28/01/2010 الإقامة : الجزائر
تمت المشاركة الأحد فبراير 21, 2010 6:20 pm
معراج الألـف

استيقظت "حم" ([1]) من نومها في ليلة مباركة طلع بدرها، وتهاطلت أنوارها من شرفات الصفات، وعزفت نجومها موسيقى الصمت على أوتار الحضور.

رفعت رأسها، وأجالت الطرف في أنحاء البيت الذي درست جدرانه فلم يبق منه غير سقف مرفوع وباب موضوع بلا مزلاج. بحثت عن ابنها فلم تره في البيت فأدركت أن الريش قد بدأ يكسو جناحيه، وأنه لابد لـه أن يتعلم الطيران، فتأهبت للفراق، وراحت تناديه للعناق، والدموع في عينيها ترسل أعذب النغمات.

كنت في روضة عنقاء، أجمع طاقة من الزهور الحمراء والبيضاء، حين سمعت نداء "حـم"، فهرعت إلى فرس الفجر وامتطيته، وأطلقت لـه العنان.

فرد فرس الفجر جناحيه، وطوى بي المسافات متجهاً نحو مصدر النداء. وفي الطريق الطويلة امتشقْت نجمة الصبح ورحت أسوق أمامي قطعاً من الليل حتى إذا برز النهار لاستقبالي من خباء "حيّ على الفلاح" كنت قد وصلت الديار وقرعت باب الدار.

ـ أيتها الروح المفارقة أمها ما الذي أخرك عني ؟

هكذا قالت "حـم" وهي تغزل بصنارتين من فرح الأمومة قميصاً لابنها.

ـ كنت أجمع لك طاقة من الزهور الملونة.

قلت هذا ومددت يدي إلى السلة لأقدم لها ما جمعت منذ الصباح فلم أجد غير نجوم ذابلات منطفئات.

تبسمت "حـم" وقالت: يا ولدي سأعلمك الطيران، فأنت لن تستطيع قطف النجوم من حديقة الورد الملكية قبل أن تنبت أرياش خوافيك وقوادمك.

ـ منذ أن فارقتك يا حـم لم أذق طعاماً، فهل أجد عندك ما يسد الرمق، وأتزود به في رحلتي؟

وقفت "حـم" أمام التنور وراحت تخبز لي أرغفة من حنطة سنابلها لم تحصد، وأنا الجائع أتناول منها ما يسد الرمق بعد التعب، ثم راحت تملأ لي سلتي أرغفة رقَّت وصفت فهي الماء الزلال. ورحت أنظر فيها فأرى وجهي المكنون ووجه حبيبي المحجوب، وهي تتبسم لي وتقول:

ـ لن تجوع بعد اليوم.

ـ ما أرغفة الماء هذه يا أماه؟

ـ هذه زاد الطريق.

قالت ثم أردفت:

ـ أمامك سفَرٌ طويل، سفَرٌ عنده، وسفَرٌ إليه، وسفَرٌ فيه، وأنت بحاجة إلى الزاد، وخير زاد لك هو الحيرة المائية؛ فمن تفكّر تحيّر، ومن تحيَّر ظل في قلق وحركة، والحركة حياة، ألا ترى الماء في البحر في قلق دائم وحركة دائبة، كي يبقى الوجود موجوداً؟

ظلّلَنا الصمتُ برهة، حتى إذا فار التنور بالأرغفة المائية وشارفْتُ على الغرق قالت لي:

ـ اركب الفلك بعيني، واحمل معك بلبل الدار يهدِك إلى جبل الجوديِّ بشدوه. ولا بد كي تصل إلى هذا الجبل من أن تركب الطوفان إلى جزائر السلوك فتتزود من ملوكها بعض ما يعينك في بلوغ الأرب. اكتحل بالملح كي لا تنام، فمن نام غفل ومن غفل حُجِب. وليكن قلبك مترعاً بالهمة العالية كي تدرك السعادة اللانهائية. ستعثر في الطريق على كنوز من الجواهر، فلا تحبسك عن الطلب، فإنك إن قنعت بها أصبحت أسيراً لها، وأصبحت لك صنماً، ومن لا طلب لـه يظل أسير دجوان الظلمة، فارتفع بهمتك إلى مصاف الملوك حتى تشتعل النار في ملكك. وستجد في كل جزيرة رفيقاً يقودك إلى مليك محبوب، فإذا وصلت إليه فلا يحجزك حبك لـه عن السعي إلى غيره حتى يكتمل محيط الدائرة؛ فالوصول إلى المعشوق يقتضي المرور بالأحبة، والمعشوق لا يكون إلا في المركز. وفي كل جزيرة تصلها على محيط الدائرة قطر يصلها بالمركز، إن شئت أن تعبر منه إلى المعشوق. ولكل سالك طريقة، وإذا أردت ألاّ تضل فكن كمعروف الكرخي([2]) سكر من حب الحبيب فلا يفيق إلاّ بلقائه. وإذا حزَبك أمر فنادني، وأنا معك طوال الطريق إن رأيتني وإن لم ترني. وإذا وصلت إلى جبل الجودي ستجدني هناك انتظر قدومك الميمون.

أيقظتُ البلبل من نومه، وحملته معي في الفلك وانطلقت مبحراً من ميناء الطلب، حتى إذا صرت وسط اللجة لجَّ بي الشوق إلى أمي فهاج البحر، وتقاذفتني أمواجه، وأحاطت بي حيتانه. ولفتني ظلمتان، فوقفت واجفاً في مقام الخوف، وسمعت هاتفاً يقول:

- أنت الذي اخترت الطواف في بحر الفضول حيث الأمواج تتلاطم مركبك بين ردٍّ وقبول، لقد سلكت قبلك رابعة الطريق سبع سنوات زاحفة على جنبها فوق الأشواك لتلقى حبيبها، وتنعم بالقرار. فإن كنت لن تستطيع صبراً مع هذه الدوامة التي تدور في رأسك، فعد إلى الدار كي لا يحترق بيدرك، وإن أردت الاستمرار فتذكَّر، فإن الذكرى تنفع المبحرين في بحر التحقيق.

تذكرت أنني تركت البلبل حبيساً في قاع السفينة، فأطلقته، وضرعت إليه أن يغني، فوقف على حافَّة الفلك، ورفّ بجناحيه المضيئين فتناثرت ذرات النور في السفينة وانطلق مغنياً.

يا واصل الكاف بالنونِ

استجب

لعبرة المحــزونِ

يا رافعا همَّ ذي النونِ

أسرجِ

الرياح للسفينِ

يا كاشف الضرِّ والهـون

ارفع

البلاء عن رهين

يدعوك يا سيِّد الكون

تائه

في لجة المنون

تردد صوت بلبل الدار في البحار، وتعانقت الأصداء في الأمداء، فغادرت طيور السُّدرة العرش، ولامست بأجنحتها جبين الماء، وأسرَّت في أذن اليمِّ كلماتٍ، فهدأت الأمواج، وعَنَت للفلك الرياح.

أسلَمْتُ " باسم الله مجريها ومرساها " قيادة الدفّة، وما هي إلا برهة من زمنِ " إن يوما عند ربك " حتى حلقت فوق السفينة نوارس البحر فعلمت أن اليابسة عما قريب لبوس ، وكان الجوع قد أيبسني حتى صيَّرني حشفاً على نخلة خاوية، فتناولت رغيفاً من الماء مما صنعته لي "حـم"، فأكلته حتى سمعت بكاءه في عروقي، وغرّدت العافية في ضلوعي، فتابعت المسير حتى لاحت لي في جوسق التجلِّي جزيرة جنّاتها جِفان، لم يطأها قبلي إنس ولا جان، ورأيت بلبل الدار يخلع جناحيه ويتسلق سارية السفينة ويهتف : " تبارك الذي بيده الملك ".

أرسلت نظري إلى الشاطئ الملوِّح لي بأشجاره، فجذبني إليه صوت غناء ينداح من الأغصان تراتيل، ومن الأثمار تسابيح، ومن الأوراق حفيفَ تهاليل. وعلى رابيةٍ مطلة على الخليج وقفت " تبارك " بثوبها السماوي الشفيف، وشالها الليلي المرصع بالنجوم وهي تشير إليّ بيد تبرق بالسلام : أن هلمَّ إليَّ أيها البحّار.

كان الليل قد أرخى سدوله، والطريق إلى "تبارك" لمّا تزل طويلة ، وأنا أردم النعاس بالمسير، حتى انتهى بي الدرب إلي حديقة معلَّقَة، أبوابها مغلَّقة ، والنعاس يحتفرني، وشذا "تبارك" يسكرني، فوضعت سلتي المملوءة بأرغفة الماء إلى جانبي، وأسندت رأسي إلى الحائط، وضربت على نفسي الهلوع خيمةَ الهجوع، وأبحرت في حلم ماله قرار.

أقبل الليل، وأرخى فوق جفنيّ الستائر



وصحا القلب، وضوّى زيته طاق السرائر



وهَمى عطر عجيب، لم تـزوّده المعاطر



فتشظّى التوق حلما رائع البهجة ناضر



هل هو النوم أم اليقظـة نادت فلتسافر



واطرق الأبواب، حتى ترد الحضرةَ حاضر



حِبك الباكي يناديك ، فأسرج كل خاطر



واملأ الكاس نجاوى خيرِ بكّاءٍ وشاكر



هي زاد الدرب، والدرب مليء بالمخاطر




جزيرة الدموع

أيقظتني " تبارك " من حلمي وقالت: قد سجا الليل، وراق الطلب، ونفرت من سجادة الحلَك عصافير النور، وأذاعت بلابل الأرواح على غصون الراح سكّر التقوى، فهيا نصطبح كاس الصباح.

قلت: يا تبارك إني رأيت فيما يرى النائم أني مسرج قلبي إلى طاق الحبيب، ونثارات نحيب قد أضاءت لي مسراي إلى الحضرة.

قالت: فلتبادر هذا النداء مثلما بادر صنعان أميرته الرومية. إن تحقيق المنام هو نهج السالكين وخيار العاشقين.

ثم سارت بي " تبارك " من طيبة الطيوب إلى كربلاء القلوب، وطرقت باب الصحة ففتح الباب فتى كانبلاجة الفجر أثقله الداء، برز من خيمة الطاعة وهو يحمد الله في الصحة والمرض، ويقول:

" اللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني، ولك الحمد على ما أحدثت بي من علة في جسدي، فما أدري يا إلهي أي الحالين أحق بالشكر لك، وأي الوقتين أولى بالحمد لك؟ " ([3])

ثم دعانا للدخول فدخلنا، وأحضر لنا متَّكأ فجلسنا، وتناهى إلينا صوت معركة، وصهيل فرس، وبكاء أطفال، ونحيب نسوة مطفلات. وتراءى لنا فمٌ مشرَّف ارتوى بسلافة سبحانك وما ارتوى من الماء، ونهر تحدرت مياهه دماً ودموعاً وهي تعرج إلى السماء.

قلت لانبلاجة الفجر: ما تقول في هذا المقام؟

تهاطلت كلماته زنابقَ نور على روضة عصفت بها رياح الفرقة والشرور:

" اللهم أَلبِس قلبي الوحشة من شرار خلقك ، وهب لي الأنس بك وبأوليائك وأهل طاعتك، ولا تجعل لفاجرٍ أو كافر عليّ منّة، ولا لـه عندي يداً، ولا بي إليهم حاجة. بل اجعل سكون قلبي وأنسي نفسي واستغنائي بك وبخيار خلقك"

قلت: يا انبلاجة الفجر، الهواء يتنفسه المؤمن والكافر، والشمس يستضيء بها الظالم والمظلوم، والماء يشربه العادل والفاجر، والحرف يتحرّفه الحارف والمنحرف، فكيف لحرفي ألاّ ينحرف عن الحق ؟ وكيف للساني ألاّ يلتَسِن إلا بالصدق؟

قال : بالنور.

ثم رفع يديه داعياً:

" اللهم هب لي نوراً أمشي به في الناس، وأهتدي به في الظلمات،

وأستضيء به من الشك والشبهات " *

قلت: يا انبلاجة الفجر، كيف لي أن أميز ألِفاً مظلمة من ألفٍ منيرة ويحمل النص نُصّاص يتصرفون به حسب أهوائهم ، وآخرون قلوبهم دوّدت، يقولون: إننا من الأبدال. وأيديهم غائصة في الأوحال؟

قال: بالنور تميز ألف الشيطان من ألف الرحمن " ومن لم يجعل الله لـه نوراً فماله من نور " اعلم أن الأحرف الثمانية والعشرين لا تضيء إلا بنور نور الأنوار. ألم تر أن ما أنزل الله على أنبيائه أمران نص ونور، فقال :

" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين "

" وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور "

" وآتيناه التوراة فيها هدى ونور "

وأكبر الهموم والبلوى أن يخلو القلب من النور. والدنيا أيها السالك إذا سَدّت بحاجاتها نوافذَ القلب لم تنفذ إليه الأنوار النازلة من "ألم"، ثم رفع يديه داعياً :

" يا واحد يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، اعصمني وطهّرني،

واذهب ببليتي، واقبض على الصدق نفسي، واقطع من الدنيا حاجتي،

واجعل فيما عندك رغبتي شوقاً إلى لقائك، وهب لي صدق التوكل عليك "*

قال هذا ثم جاء جنود غلاظ شداد، واستاقوا مع الركب النوراني انبلاجةَ الفجر، وساروا على شاطئ الفرات، وما دروا أن النور لا يقيَّـد والقلب لا يقتاد، وأن الفجر إذا انبلج فلا بد للصبح أن يطلع.

قالت " تبارك " : لا تحزن فهذه نهضة الإيمان، وحبيبك انبلاجة الفجر وسيد الملاح هو فجر ثقافته؛ فالأحداث لا تقاس بالآن وإنما تقاس بالأوان، فكحِّل عيمشكوور يا مدع بأنوار الصباح، وأَرجِع البصر والبصيرة، فأرجعت كَلِّي في كُلِّي، وأرسلت سمعي أمام بصري، وغسلت بالدمع ثلاث ظلماتٍ في نفسي، فرأيت أجواقاً من الملائكة ما بين السماء والأرض تظلل الركب المحزون بأجنحتها، تلتقط دموع الفجر قبل أن تلامس خديه فتتحول كل دمعة إلى عرفان. ثم هبط جوق منها حتى لامس بأجنحته مياه النهر وهو ينشد:

أَحَدٌ .. أحد

زغرِدْ

يا نهر الأحزان

يا نهر حضارات بادت

في الأزمان

حاذاك النور الباكي

فاملأ كاساتِ الندمان

شجَنَ الورد ..

المسفوح ..

على الشطآن

هذا الدمع المتلالي

فاتحة الطوفان

ثم هبط جوقٌ ثان فدار حول الركب المفارق الفرات دورتين وسبّح:

سبّوح .. سبوح

يا أيها المفارق الفرات

مزمّلاً بغيمة الشتات

مزنّراً بالحب والصفات

لا فرق بين الموت والحياة

يا وردة الفردوس ..

واللغات

النهر

يلطم في الضفاف اليابسة

وكل من في الكون ساهٍ

غائص القدمين

في شطآن بحر الآخرة

ثم هبط جوق ثالث على جبل النحاس المطل على الشهباء وأوَّب:

سائقَ الأظعان رتِّل



هللويا



فيك من أهواه مقبل



هللويا



جفنهُ القدسيُّ مرسل



هللويا



أيَّ نور أنت تحمل



هللويا




ثم هبط جوق رابع وصفق بأجنحته مياه بردى ورتَّل:

كل ما في الكون في وجهك ماثـل



يا أيها الإنسان



أنت مِن هوو.. فلتكن حر الشمائل



يا أيها الإنسان



أنت تاج الملْك، والطاغوت زائل



يا أيها الإنسان



أنت معشوق، ومن يجفوك باطل



يا أيها الإنسان




ولما لاحت طيبة الطيوب للركب المزنَّر بالقلوب حطت على منائرها أجواق الملائك ، ولِمقدم الحبيب أذَّنت مكبِّرة :

هل أتاك حديث الغاشية

والذين طغوا في الجارية

يوم لم تُبقِ منهم باقية

نارُ شعب مَهين عاتية

فَغَم شذا العرفان أرجاء طيبة، ورنّقت فوق بيوتها أجنحة التسابيح، وهللت روضة الحبيب المصطفى بعودة الحبيب المجتبى، فاكتملت دائرة العشق، ودرجت على أقطارها طفلة السلوك.

حلت " تبارك " جدائل شعرها، وسرحته بمشط من عسل ونور، وأرسلته على كتفيها فامتد حرير معانيه عبر الشعاب الدامية والزمن الديجور، فأضاء طريقاً إلى الحقيقة واليقين، ثم قدمت لي كأسا من لبن غير مجلوب لا تتذوقه إلا القلوب. وعندما شربته أمطرت غواسقي معارفُ وأسرار، ومددت كُلِّي إلى جناحي، ثم أخرجت يدي فإذا هي بيضاء كالنهار، ثم تبعها كُلّي بعضاً بعضاً حتى تكامل الخروج للقاء الحبيب فسجدت شكراً. ولما نهضت من سجودي تبسمت " تبارك " وقالت: لقد أصبحت مؤهلاً للقاء سيد الساجدين ، وها إني مددت لك من شعري المعسَّل بالأنوار الطريق المطوية، وبسطت أمامك الصحيفة السجادية، فاسلك بالقبض وهادها ونجادها، وبِيدَها وسهولها، وبحارها وأنهارها، فإن مطافها ينتهي إلي الحبيب، فكن فيها خير السالكين، وحدثني عما ترى بعين العين، وسمع السمع.

امتطيت براق "رسالة الحقوق"([4])، فعرج بي على الطريق المعسَّلة بالأنوار حتى انتهى إلى مسجد في طيبة الطيوب تعبق فيه نوافج مسك الكلم، فترجلت ودخلت، ورأيت الحبيب يغترف من بحر جده كؤوساً من قواعد السلوك يسقي بها العامة والخاصة، ثم ناولني كأساً لا تمسها يد، ولا تراها عين، مبدعت عليها هذه الحروف:

" الحمد لله الذي ركّب فينا آلات البسط ، وجعل لنا أدوات القبض ، ومتعنا بأرواح الحياة، وأثبت فينا جوارح الأعمال "*

شربت منها، فرويت ظمئي، ثم ودعني، وأودعني على رَفْرفٍ بقوة البيان وأنوار الفرقان، فتابعت طريقي حتى انتهت بي الرحلة إلى دار تشف جدرانها عما فيها: أحجارها دموع، وسقفها خُشوع، وبابها رُكوع.

دعتني جنائنية الدار " طس " إلى الدخول فدخلت، ووقفت في رواق " من آتى الطعام على حبه" فرأيت أيتاماً وأضِرّاء، وزَمْنى ومساكين، وأسرى لا حيلة لهم، يطعمهم سيد البررة بيد بيضاء تسر الناظر وهو يحادثهم ويمازحهم ثم يحمِّلهم طعاما إلى عيالهم ويقول:

" اللهم هب لي يقيناً صادقاً تكفينا به مؤونة الطلب، وألهمنا ثقة خالصة

تعفينا به من شدة النصب "*

ثم عبرت بي إلى رواق " يا عبادي" فرأيت حبيبي يشتري الأرقاء فيغْنيهم ثم يطلقهم أحراراً ويقول:

" إن الشريف من شرفته عبادتك، والعزيز من أعزته عبادتك"

" يا غني الأغنياء ، هانحن عبادك بين يديك وأنا أفقر الفقراء إليك "*

ثم عبرت بي إلي رواق " ما آمن بي من بات شبعان.." فرأيته جائعاً يحوم حول طعام يشتهيه فلا يأكل، ونفسه لا تقر إلا بأمر، حتى إذا تصدق بمثله هدأ واستقر، وأقبل على الطعام بنفس راضية.

ثم عبرت إلى رواق " واخفض لهما " فرأيته يضع طبقاً عليه خبز ورُطب ودموع ، وإناءً فيه لبن وتقوى وخشوع، أمام امرأة عجوز ينظر إليها بعين الذل والرحمة ولا يواكلها.

قلت : يا ابن بنت رسول الله أنت أبر الناس وأوصلهم للرحم فكيف لا تواكل أمك ؟

فقال : إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها.

وظللت أعبر أروقة السلوك رواقاً بعد رواق، أصيد بعض طيور الطريق، حتى انتهيت إلى الباب وأذن مؤذن الغرام بالوداع.

قلت: يا انبلاجة الفجر وريحانة الإسلام ألا تقرئني الصحيفة فأكن من الشاكرين؟

تبسمت دمعة سالت على خد السلام وقالت : طريق الدموع صحيفتك، وصحيفة الأكوان هو الإنسان. ولا تدخل باب الإنسان إلا من بوابة الضراعة والخشوع والدموع.

الحروف الثمانية والعشرون يا ولدي قطرات دموع كل حرف دمعةٌ تهطل من عين الله، ومن هذه الدموع تولد لُغَى العشق والأقلام. والعشق وحده يا ولدي يقودك إلى حبيبك النور المحيط، وما أنا إلا مَعْلَم في الطريق، فأسمعني صوت الدموع والضراعة يصلني الصوت أينما كنت.

قال هذا ثم غلبه البكاء واغرورقت عيناه بالدموع، ودارت الدموع في أفلاك عينيه حتى سمعت في دورانها رفيف أجنحة الملائك، وهينمات الكواكب، وموسيقى الأفلاك، وتسابيح الوجود.

ركبت الطريق عائداً إلى " تبارك " ، خاشع القلب على رفرف الحب، فتجلى النور أمامي، ورأيت كل ما في الكون يدور ويدور، وتسابيح تمور، والسماوات السبع والأرضين في ركوع وسجود وحبور، ورأيت و رأيت ما لا تحيط به عين ولا يصفه لسان .. كل ما في الكون نور وصلاة .. نور وصلاة.

سجد النور وصلّى



في تهاديل الحمام



ودم البوح تجلى



في فضاءات الإمام




يا إمام العارفين

عِلمك المكنون ضوئي في السلوك

أنت يا مَن

مِن تقىً تغضي حياء

وإذا الهيبة صالت

في محياك

فقد أغضى الملوك

من نجاواك أصوغ اليوم زين العابدين

وإمام الساجدين

هذه النجوى

ونجواي ..

ذنوب وسجود وركوع

وابتهال واشتياق ودموع

مبتداها : يا حبيبي

يا حبيبي

طال ليل العوسج البري

واجتاحت

حقول الزنبق البري

ذؤبان الجفاف

وحروفي البيض

من ثلج

على نار رعاف

ولُحوني

عافها المعزف

في صمت الزُّعاف

لغة العشق استبيحت

وغدا العاشق

مجنوناً

وسادت لغة اللغو

وتحذاء الهتاف

فمتى ينداح لحن النور

في الناي

يصلّي

في تهاديل الحمام؟

ومتى الحب يجلّي

في فضاءات الكلام؟

يا حبيب البؤساء

أنا من سجادة الدمع أتيتُ

ومضيتُ

أنا ناي الضعفاء

ليس سرّي ببعيد عن لحوني

وشجوني

ونحيبِ المدلجين في اضطرار

لكنِ الطاغوت

لا يملك سمعاً

يدرك الأسرار

قبضَت " تبارك " شعرها المتجدول على أكتاف طيبة وضفرته جدائل سجادية الألحان، وقالت متبسمة:

ـ أتقدر على مثل هذا الحب؟ وفراشة العطار ما عرفت حتى تعطرت واحترقت في دائرة النور والنار؟

قلت: يا سيدة الحروف

تبارك

اسألي نفسك مرة واحدة

من يقدر على مثل هذا الحب

غير عاشق

يوقظ عصافير النور

من سجادة السجاد

ويطيِّرها على أغصان الفؤاد؟



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) تلفظ حاميم (حاء ميم)، وعلى هذا القياس تلفظ باقي الأسماء الفواتح الواردة في الكتاب

([2]) معروف بن فيروز الكرخي. من موالي علي بن موسى الرضا(ر) توفي سنة201ه‍.

([3]) هذه المختارات من الأدعية في معراج الألف والمعلمة ب‍‍‍‍(*) هي من الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين (ر)

([4]) رسالة للإمام علي بن الحسين(ر).

معراج الألـف Empty رد: معراج الألـف

barca
barca
عضو محترف
عضو محترف
رقم العضوية : 2
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 30675 نقاط التميز : 40640 تقييم العضو : 915 التسجيل : 05/08/2009 الإقامة : guelma
http://www.guelma24.net
تمت المشاركة الأحد فبراير 21, 2010 6:43 pm
مشكور اخي فراسبيتو متميز كعادتك
التوقــيـــــــــــــــــــــع



فداك أبـــــــــ يا رسول الله ــــــي وأمي
معراج الألـف Oussam10
معراج الألـف 662263250
معلوماتـــ مهمة:

تنبيــه!! [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

معراج الألـف 34380_1232858421
استعرض الموضوع التاليالرجوع الى أعلى الصفحةاستعرض الموضوع السابق
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى