أمي.
قطعة ُ العجين التي تسري خلالها دماؤها و تتقاطُعُ آثارُ العروقِ و الجُرحِ و السُّرة ، تقومُ بتقليبها و الطبطبة ِ ما شاءَ لها الإنتفاخ و اتخاذَ هيئةَ المخلوق الكامل ، ذو الساقين المغروزين في بطن ٍ يعلوهما رأسٌ بشعر ٍ خفيف و زريّن يحدِّقان من مرقدهما بين الجفون إلى أطلال هذا العالم . و الأمُ فتاةُ الأمسِ ، التي أَمنتْ رجالَ الحقل ، إذْ باتوا ينادونها بأمِّ فلان ، خطبها واحدٌ منهم بشاربين ثقيلين و وجه ٍ قاس بسببٍ من وهجِ الشموس و قلّة النوم و الأكل . سيجيءُ من النافذة التي يلوحُ عليها ستارٌ شفّاف ، تراهُ من جلستها بين الوسائد المشغولة بشكلٍ يدويّ ، في فترةِ المغرب . يمشي قُربَ الأشجار .. يحيّ الأرض و يَفحصُ البراعم الجديدة التي نَمتْ على الأغصان .
و الأمُ الزوجة تكمشُ من المُنخل ، الخشبيّ المستدير ، حفنات القهوة و تُلقي بها على النار لكي تتحمّص و يَكسحَ جوُ المساء رائحةَ القهوة المُنعِشة ، فتختلطُ برائحةِ الأرض في أنفهِ الكبير ، فتظنّ أنها قد استعجلتهُ ، و ها هو يكسرُ صمت البيت بندائه .
ينحنيّ و يرفعُ الطفل عن سجّادة الصلاة . تُسرِعُ الأم فتغسلُ رأس وليدها المتوسِّد كتفَ الأب بماءِ زَمزم . و الأبُ يمسِّد على ظهره و أذنيهِ المُنمنمتين ، و يلهجُ بالدعاء و الأم تردد ما تسمعهُ من زوجها . فيجتمعُ الثلاثة بالتصاقٍ يلوي فيهِ الخوفُ عنقه ، و تتفتحُ مسامُ الكلام عند الأم لكي تُفصِحَ عمّا جالَ بخاطرها طيلة اليوم لزوجها ، و تغدو ملامح الزوج أقلُ قسوة ، و يختفي الرضيعُ في أحلامهِ الخاصة .
-" ناحَ العكروتُ الصغير " ، يقولُ لها ، و يهزّها من نومها كأنما يهزُّ جذع كرمة ِ عنبٍ حَفرتْ الأرض جَنبه . تقومُ متثاقلة . تدفعُ بثديِّها الأشقر من تحت الثياب و تدسُّ في الفمِ الصارخ حَلمتها . دودةٌ حمراء ترتعشُ في شقِّ الصخرة ، و يحكُّ الرضيع برأسه ِ مَلمس الثديّ الناعم ، و لا يُفلِتْ بشفتيهِ نافورة الحليبِ التي يَنصبُّ نَشيشها في حلقهِ و يُرطِّبُ جَوفه .
يراقبُ الأب هذا المشهد ، و قد شبّكَ بين أصابعه ِ خلفَ رأسه . لقد نهَضَ إلى مَطرحٍ قصيّ و عَملَ نَفسهُ لا يُتابِع . لكنهُ مُنتشيٍ كفاية .. و يوميء من طرفٍ خفيّ إلى امرأتهِ باتجاه النصفِ المستور من صَدرها ثم يشيرُ إلى نَفسه .
فتضحكُ و تقولُ لهُ :
- " لقد خَلُص دورك .. "
تتابع الأيام و يستديرُ جسد الطفل . تملأ الأسنانُ فَمهُ ، و يستطيلُ رمشُ عينيه مثل الفراشات . تقلقُ الأم ، فقد حانَ وقتُ فطامه . لا شأنَ لهُ منذ اليوم بثديِّها .. سيتخاصمان . تَقدحُ زِنادَ عقلها في البحثِ عن طريقة لأجل أن يكفَّ الطفلُ عن طلبها . و يُقلعَ بنظرهِ إلى بستان ِ الحقل بدلاً من بستان صَدرها . و يفهم في غور غريزته أن ثمّة مذاقٌ آخر على شفتيه عدا مذاقُ الحليب ، و بَردٌ يَعصِفُ بالعِظام .. و مسافاتٌ تُقطع أبعَدَ من صدرها إليه .
فأخذتْ من سائل القهوةِ المُر و دَهنتْ أطرافَ الحلمة . ثم جّذبتْ إليها الطفل ، فجعلَ يشدُّ و يرخي باطنَ الثدي كالقربةِ ، قبلَ أن تتدفق كآبةٌ إلى روحه ، و يحسَّ لأول مرة في حياتهِ بهاظةَ الشيء المغشوش .
بَصقَ الحلمة و خبطَ بقدميه . بكى من القهر ، سالتْ دموعهُ ، و تورّدَ سؤالٌ في فيه : " يا أمي لماذا ؟ " .
في ظهيرةِ احد الأيام ، شاهدَ من فُرجةِ النافذة ، بأمّ عينيه ، جسماً كبيراً يتألفُ من بُقعٍ سوداء و بيضاء ، يأكلُ من عُشب الأرض . أَعجبهُ منظرهُ ، و زادَهُ رغبة ً أن يقترب َ ، لا سيِّما نفورهُ الطاغي و الهزيمة ِ التي مُنيَّ بها مؤخّراً . فزحفَ نحو النافذة ، و حدقتاهُ لا تنفكّان مُعلقتان بضرعِ البقرة ، و استراحَ تحتها يَمضغُ الحليب ، بينما تخورُ البقرة و تهزُّ ذَنبها .
قالتْ لزوجها : " الشعورُ بالذنب يأكلُ صَدري و يَفرشُ مَهجعي بالأشواك . لقد سلبتُهُ ما كانَ يلهفُ و يرنو إليهِ دائماً ."
على العُشب ..
يستمرُّ بمصِّ الضرع و إن ألفى عجلٍ يريدُ مزاحمته . لن ينقطع سيلُ الحليب ما دامَ متشبِّثاً بساقيِّ البقرة و فمهُ مفتوحٌ على اتساعه في مواجهة ِ الضرع .. و يَعضُّ .
بيد أن العيد جاء ..
ذَبحوا البقرة ، خرجَ منها سائلٌ أحمر . هّمَّ بالبكاء .. إلى اللحظةِ التي شاهدَ فيها أمهُ تنتظرهُ ، فاتحةً ذراعيها بشوق ٍ ، عند الباب .
- muhammed.5عضو جديد
- الجنس : عدد المساهمات : 40 نقاط التميز : 80 تقييم العضو : 5 التسجيل : 11/07/2013 العمر : 32
تمت المشاركة الخميس يوليو 11, 2013 3:58 pm
- زائرزائر
تمت المشاركة الخميس يوليو 11, 2013 4:04 pm
شكرا الك على الطرح
تحياتي
تحياتي
- MiMiToU_iiعضو محترف
تمت المشاركة الثلاثاء يوليو 16, 2013 12:09 pm
سلمت يداك اخي موضوع قييم جدا
استمتعت كثيرا بقرائة الموضوع
لاعدمنا جديدك تحياتي لك
استمتعت كثيرا بقرائة الموضوع
لاعدمنا جديدك تحياتي لك
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى