كان القرآن
ينزل على قلب النبى صلى الله وعليه وسلم وقلوب الصحابة غَضًّا طريًّا،
تتشرب القرآن ومعانيه، يأخذونه مأخذ التنفيذ والتطبيق، وكان من نهج
الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم لا يزيدون على حفظ عشر آيات حتى يعرفوا
معانيها وحقها، ويفهموا ما فيها من الحلال والحرام، ولا يتجاوزونها إلى
غيرها حتى يُتِمُّوها عملاً وفهماً.
والقرآن العظيم له لذة فى القلوب وبهجة فى الأرواح ونور فى الضمير، حتى إن عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله".
ولم
يكن هذا حالَ الصادقين من المؤمنين وحسب، بل إن كفار قريش حذروا أتباعهم
من سماع القرآن، لما يعلمون من صدق بيانه وعظيم سلطانه على القلوب، قال
الله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" (فصلت: 12).
وقد
جاء الوليد بن المغيرة أحد سادة قريش، يساوم النبى صلى الله عليه وسلم
بالملك والمال والزوجة الجميلة، فإذا بالنبى يقول فى أدب نبوى: "أفَرَغْتَ أبا الوليد"؟ فقال: نعم.. فقال له: "فاسمع منى"، ثم تلا عليه سورة فُصِّلَتْ، حتى وصل إلى قوله تعالى: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ"
(فصلت: 13)، وارتجف الوليد متأثرًا بجلال القرآن، ولم يتمالك نَفْسَه،
وإذا به يضع يده على فم النبى، مناشدًا إياه الله والرحم ألا يُكْمِل!
وانصرف من عند النبى ونَفْسُه تَمُوج مَوْجًا تأَثُّرًا بالقرآن، وعاد إلى قومِه بوجهٍ غير الذى ذهب به، ولما سُئِلَ: ما لك؟ قال: "سمعتُ
منه كلاماً ليس من كلام الجنّ ولا من كلام الإنس، واللهِ إن له لحلاوة،
وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لَمُثْمِر، وإن أسفله لْمُغْدِق، وإنه ليعلو
ولا يُعْلَى عليه."...
وهذه شهادة كافر تأثر بالقرآن، فما بال القلوب قد تَيَبَّسَتْ فلم تستشعر لذة القرآن؟!
حتى
إن الكثير من المسلمين اليوم، إلا من رحم الله، لا يجاوز القرآن حناجرهم،
فبقدر إقبالهم على المصاحف يرتلون القرآن فى رمضان ويختمونه كثيراً، إلا
أنها قراءةٌ خاوية، خلت من التدبر والتأمل، فلم يعد لها ثمرةٌ فى حياتهم
وسلوكياتهم، وميزان أخلاقهم، فذهب عن القراءة قيمتها؛ لأنها لم تغير نفس
صاحبها، والله رب العالمين ينعى على الذين لا يتدبرون القرآن، ولا يتفهمون
معانيه، قائلاً: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أم على قلوب أقفالها"؟!
إن
الناظر اليوم فى الساحة يجد أن المسلمين اليوم يعانون من فائض إيمانى
هائل، فالحجاب منتشر بين النساء، والشباب لا تفارقهم المصاحف حتى فى وسائل
المواصلات، والمساجد تغص بِرُوَّادِها، ولكنّ الأمر فى الإسلام لا يتعلق
بكثرة المصلين وحسب، ولا بالقوالب المنصوبةِ التى تؤدى الحركات الخالية من
الحياة، التى لا تعود على واقعهم بالخير، ولا على سلوكياتهم بالنضج؛ لأن
هذا خلاف المقصود من تدبر القرآن وتلاوته، ورضى الله عن ابن مسعود، إذ يقول:"إذا سمعت الله عز وجل يقول فى كتابه: "يا أيها الذين آمنوا" فأصغ لها سمعك؛ فإنه خيرٌ تُؤْمَرُ به، أو شَرٌّ تُصْرَفُ عنه".
وهذا
يدلنا على أن القرآن كتاب حياة، تَنَزَّل للعمل به، والاستسلام لأحكامه،
وتشريعاته، وحدوده والوقوف على مواعظه وإجرائها على القلوب، حتى تستقيم
على ما يحبه الله، وينهض بالحياة، ويقيم الحضارة الإنسانية فى ميدان
الوجود؛ حتى يصير كُلٌّ منا تطبيقًاً حيًّا لتعاليم القرآن، ودعوةً نابضةً
للإسلام العظيم.