استعرض الموضوع التالياذهب الى الأسفلاستعرض الموضوع السابق

الإتزان العقلي وسط المتغيرات Empty الإتزان العقلي وسط المتغيرات

بدوي محمد نور الإسلام
بدوي محمد نور الإسلام
عضو فعال
عضو فعال
رقم العضوية : 5704
الجنس : ذكر عدد المساهمات : 706 نقاط التميز : 2013 تقييم العضو : 17 التسجيل : 01/06/2010 العمر : 29 الإقامة : www.yahoo.com
تمت المشاركة الخميس سبتمبر 20, 2012 7:59 pm
الإتزان العقلي وسط المتغيرات




المعلم برمهنسا يوغانندا

الترجمة: محمود عباس مسعود



الغربيون يشددون على الراحة الجسدية. فعندما يكون الطقس شديد الحرارة يتألم الغربي في غياب وسائل التبريد، وعندما يكون شديد البرودة يشعر بالمضايقة لعدم توفر التدفئة الاصطناعية. لكن معلمي الهند يلقنون فلسفة ذات طابع مغاير. فهم يقولون أن الحساسية للحرارة والبرودة واللذة والألم تحدث بسبب الإيحاءات الوهمية للحواس المخادعة وبفعل تحقق الإنسان مع حواسه والاستجابة لمتطلباتها التي لا تقف عند حد. لكن الحكيم هو الذي يفلت من قبضة الحواس ويسمو على كل الثنائيات.

العظماء لا يقترحون بأن يهذب الإنسان نفسه لدرجة إلحاق الضرر بجسمه. إنهم بالأحرى ينصحون بالتحرر الفكري من الإحساس بالحر أو البرد عندما يكون الحر أو البرد لا يطاق، وفي نفس الوقت التماس علاج منطقي لتلك الحالة.

تقول الغيتا Gita: "إن المقيَّدين بالملذات الحسية لا قدرة لهم على إحراز الإتزان العقلي اللازم للتأمل، ولا يستطيعون التوحد مع الله عن طريق نشوة الصمادهي Samadhi للغبطة الروحية.

عندما يتمكن الإنسان من عزل نفسه فكرياً عن المضايقات الحسية يجلب لنفسه السلام. وإذ يبقى عديم التأثر بالإحساسات التي تأتي وتذهب يُظهر سكينة الروح الجوهرية التي لا تتغير أبدا. وفي ذلك الوعي الثابت الراسخ يصبح واحداً مع المطلق اللانهائي الممتنع التغيير.

إن الإستجابة الخانعة لشتى الإحساسات الجسدية تضايق العقل والنفس معاً. وإذ تضطرب النفس يفقد الإنسان طبيعته الحقة التي هي الهدوء. الله موجود في أشد مناطق الأرض حرارة وبرودة. إنه في القطب الشمالي وفي الربع الخالي ولا يتأثر بالحالات والدرجات القصوى لخليقته الأرضية. والإنسان المخلوق على صورته يجب أن يحاول الإقتداء به في تصرفه. لقد وضعنا الله في هذا الجسد الخاضع للحرارة والبرودة واللذة والألم، لكنه يريدنا أن ننظر إلى هذه الإزدواجيات بعين الإتزان العقلي. إنه يريدنا أن نترفع عن الثنائيات على اختلافها. ويجب أن ننمي القدرة والإحتمال دونما تهوّر وعدم تبصّر. عندما لا نستطيع تجنب درجات الحرارة أو البرودة الشديدة يجب أن نفصل العقل عنها. فكلما بذلنا مجهوداً لممارسة ذلك كلما حرر العقل ذاته بحيث لا يمكن للإحساسات غير المرغوبة التأثير سلباً على الوعي أو الشعور.

إن سطح الجلد لا يشعر بإحساسات اللمس، فتلك الإحساسات يتم اختبارها أصلا في الدماغ. لا يستطيع الشخص أن يتذوق أو يلمس أو يشم أو يسمع أو يرى إلا بواسطة العقل. يبدو لنا أننا نختبر الطـَعم على سطح اللسان، لكن في الحقيقة الدماغ هو الذي يسجّل ذلك الطعم. وبالمثل، عندما يصاب أحد أعضاء الجسم بأذى يكون الألم أساساً في العقل وليس في العضو المتضرر. لدينا آلتان للإحساس بالألم: العصب ومادة الدماغ النخاعية، والإحساس يحدث عندما يسمح العقل بالإتصال بين العصب والنخاع. وما لم يعترف العقل بالألم فالألم غير موجود. ذلك هو الإكتشاف الرائع لمعلمي الهند العظماء. عندما يكون الشخص تحت تأثير الكلوروفورم أو المخدر (البنج) لا يحس بالألم لإن الإحساسات لا تصل إلى الدماغ. وفي أطراف الأعصاب توجد شعيرات دقيقة من خلالها تنتقل إحساسات الألم إلى الدماغ. المخدر يحول دون انتقال إشارات الألم تلك.

الدماغ هو الجهاز الحساس للعقل، وكل إحساسات الجسد تـُنقل إلى العقل عن طريق الأعصاب والدماغ. وكون العقل مقترناً بالدماغ فإنه يستقبل تلك الإحساسات ويفسّرها. العقل القوي بفعل التفكير الإيجابي هو قليل التأثر بإحساسات اللذة والألم. إنه على دراية بتلك الإحساسات لكنه ليس مقيداً بها.

لقد مُنح الإنسان الحساسية بغية حماية الجسد. فبدون الشعور قد يصاب الشخص بجرح بالغ أو حرق خطير دون أن يعرف ذلك. الحيوانات لم تنمِّ هذه المقدرة التي يتمتع بها الإنسان ولذلك فإن إحساسها بالألم أقل، وإلاّ لكانت الفظاعة التي تمارس على الحيوانات باستخدام بعض أساليب القتل والذبح لا تطاق. السرطان البحري يُلقى في الماء الحار، عند درجة الغليان، وهو حيّ!

ولأن الألم واللذة كليهما من خلق العقل، فالألم الجسدي يمكن تخفيفه بممارسة ضبط العقل. عندها يستطيع الشخص أن يختبر إحساساً كمؤشر لوجود حالة غير طبيعية، دون الشعور بالألم. البهاغافاد غيتا تعالج الموضوع بتعمق أكبر. ففرط الحساسية سواء للذة أو الألم يقوّي مفعولهما، بينما الحساسية المخففة تجعل الشخص أقل تأثراً بالألم وأقل خضوعاً واستعباداً للملذات الحسية. لقد درّبتُ جسمي وعقلي كي يصبحا أقل حساسية للمؤثرات فوجدت نفسي متحرراً من المشوشات الحسية. ذلك التدريب هو الطريق للتحرر من قبضة الحواس ومتطلباتها التي لا تنتهي.

أحد الأطباء كان يتمتع بمثل هذه القوة العقلية بحيث تمكن من إجراء عملية جراحية خطيرة على نفسه! طبعاً هذا غير ممكن بالنسبة للعقل المستعبد للتعلقات الجسدية. لكن بالتدريب يمكن أن يصبح العقل قوياً جباراً. فكلما درّب وهذب الإنسانُ عقله كلما تمكن من التحكم به. إن الطفل المدلل أو (المدلـّع) يتألم جداً لمجرد أذى طفيف يلمّ به، في حين قلماً ينكمش الطفل المدرّب على التحمل والجلـَد أو ينكص ألماً أمام إصابات خطيرة.

ومن هذه الناحية فإن منهاج التدريب الذي يقول به معلمو الهند العظام يختلف كلياً عن نظيره الذي يُدرَّس في الغرب. معلمو الهند الروحيون يدربون تلاميذهم على تحرير أنفسهم تحريراً تاماً من الإستعباد للجسد وإحساساته. إن وسائل الراحة المستنبطة في الغرب تشجع على تدليل الجسد، ونتيجة لذلك فإن الجهد المبذول في تنمية القدرات العقلية هو ضئيل وهزيل للغاية. في الهند نتعلم (في صوامع مرشدينا) كيفية القضاء على سلطة الحواس في مهدها حتى لا نصبح عبيداً لها. في مدرستي في مدينة رانشي بولاية بيهار كنا نجعل الصغار ينامون أحياناً على حصائر صغيرة على الأرض القاسية، فنشأوا أصحاء أقوياء جسدياً وعقلياً.

الغربيون متعودون على وسائل خارجية عديدة من أجل الراحة والنوم المريح. في الهند كنا نجلس على الرمل الساخن قصد التأمل. وبالتدريج استطعنا الجلوس في الحر طوال اليوم، وفي البرد بالمثل. ونتيجة لهذا التدريب حصلت على مقدرة عقلية كبيرة بحيث لا يقوى شيء على تعكير وعيي أو التأثير به. عندما أفصل عقلي عن الحواس لا يزعجني شيء على الإطلاق.

منذ سنين كان الطقس حاراً للغاية، والكل كانوا يلهثون. وعن طريق الترابط العقلي انتقلت إليّ مضايقاتهم بحيث لم أتمكن من تركيز الفكر وكتابة بعض المقالات. ثم عنفت نفسي قائلاً "لمَ كل هذا؟" وصليت لله:

"يا رب إن نفس الكهرباء تصنع الحرارة في الفرن والجليد في الثلاجة. فالطقس معتدل!"

وعلى الفور أصبح الجو لطيفاً بالنسبة لي كما لو أن طبقة من الثلج أحاطت بجسمي، وأخذت أشعر بإلهام عظيم وكتبت دون أية صعوبة.

في مرة أخرى منذ سنين، كنت أقوم برحلة عبر الولايات في سيارة تجوال مكشوفة بصحبة مجموعة من الشباب من طلاب معرفة الذات، وكان أحدهم سكرتيري. هو وأنا نمنا في السيارة وتقاسمنا بطانية صغيرة. الليل كان قارساً لدرجة التجمد. فعندما غطيّت في نوم عميق سَحبَ عني الغطاء، وعندما استيقظت جزئياً سحبت البطانية عنه بصورة لا شعورية! هذا استمر لبعض الوقت. من ثم قال عقلي: "لماذا تتصرف بهذه الكيفية؟ كل شيء تمام. إنك دافئ!"

عندئذ ألقيت البطانية عني ثم جلست ورحت أتأمل فأصبح جسمي كالرغيف الساخن. أما التلاميذ فلدى استيقاظهم بعد ساعتين وهم يرتجفون من البرد وجدوني عديم الحركة. لقد كنت مستغرقاً في النشوة المقدسة، فظنوا أني قد فارقت الحياة وأيقظوني من الإنخطاف الروحي بصراخهم، لكنني ابتسمت وقلت: "لمَ كل هذا الضجيج يا شباب؟ هيا بنا نواصل رحلتنا." فاحتجوا قائلين: "لقد كنت جالساً في الزمهرير والبرد المرير دون معطف أو حِرام!" ومع ذلك لم أصب بالزكام. وأنا الوحيد الذي كنت دافئاً!

ما ينبغي عمله هو تدريب العقل كي يصبح أكثر إيجابية. فإن صممتَ على أنك لن تصاب بالبرد أو الزكام تصبح احتمالية إصابتك بالزكام قليلة. كما ينبغي تدريب العقل أيضاً للتغلب على الألم. الحساسية العقلية تضخم الألم، وتضخيم الألم معناه تناسي صورة الله في النفس.. تلك الصورة المقدسة التي لا تـُقهر أبدا.

قال حكماء الهند القدامى أن كل العادات يبتدئ تكوينها في الإنسان في سن الثالثة. ومن العسير جداً تغيير تلك العادات بعد أن تكون قد رسخت وتجذرت في تربة الوعي. فإن كانت أسرتك وبيئتك قد خلقتا في عقلك ما تحبه وما تكرهه فقد تلازمك تلك الإنطباعات مدى الحياة. إن أول ما تعلمته من مرشدي الحكيم سري يوكتسوار هو التغلب على الأهواء النفسية فيما يتعلق بالإحساسات. فعندما ذهبت إليه لأول مرة قصد التدريب كنت أصاب بالزكام إن لم أستعمل بطانية دافئة في الطقس البارد. لكن معلمي علمني كيف أستعمل قوة العقل للتغلب على تلك الفكرة. ونتيجة لذلك تحررت من التعرض للزكام الذي رافقني منذ الطفولة ولغاية الحصول على تدريب المعلم!

بعض الناس يقولون أنه يتوجب علينا الإعتماد على العقل فقط. آخرون يعتقدون أنه ينبغي لنا إشباع الحواس. كلتا الحالتين متطرفتان.

طبقاً لإحدى النظريات يستحسن الحصول على فحص طبي بانتظام للتأكد من صحة وسلامة الجسم، تماماً كفحص السيارة من حين إلى آخر. هذا أمر منطقي. لكن الإنسان ليس آلة. فإن كانت حالتك النفسية الصحيحة تتوقف على حالة الجسد فعاجلاً أم آجلاً سيصبح العقل رهينة لمتطلبات الجسد بحيث لا تنفع أنواع وكميات الأدوية ووسائل العلاج الجسدي الأخرى. هذا يفسر إصابتنا بالأمراض المستعصية. لقد أصبح الوهن الجسدي مستحكماً لأن العقل رفض أن يكون سيد الجسد.

من الأفضل التزام الإعتدال في البداية. فإن أصبتَ بجرح طفيف ضع قليلاً من اليود عليه ولكن لا تعتمد اعتماداً كلياً على الدواء. اتخذ الإحتياطات المعقولة المناسبة إلى أن تستطيع الإعتماد تدريجياًً أكثر فأكثر على العقل. المعلمون العظام أنفسهم استخدموا الأدوية المصنوعة أصلاً من أعشاب ومواد كيماوية خلقها الله. الأدوية والعقاقير ليست ضرورية للمعلم الروحي، لكن لكي يبرهن أن قوة الله تعمل في طرق لا تحصى فقد يختار أحياناً استخدام بعض المستحضرات الطبية. وعلى أية حال فإن الظـَفر يكمن في قوة العقل. فعندما تتوصل إلى القناعة التامة بأنه يمكنك الإستغناء عن كل الأدوية دون أي تأثير سيء تنتصر وتكتب لك السيادة على الجسد.

ذات مرة أصيب أحد المعلمين بكسر في ذراعه وسمح بمعالجتها وتضميدها. وعندما أتى أحد الأثرياء لزيارته بعد فترة قصيرة من الحادث ظن التلاميذ المتوجسون خوفاً أن الزائر سيخيب ظنه لدى رؤية ذراع المعلم في حمّالة اليد. فقال المعلم للزائر: "كما ترى (شوفة عينك)! ذراعي مكسورة وأحس بالألم.. والتلاميذ يتصورون أنك لدى رؤية ذراعي المكسورة ستحسب أن الله قد تخلى عني ولم يعد يهتم بي، فلا تلق بالاً لهم."

وفي مرة أخرى كان نفس المعلم ينشد لله في حالة نشوانية سامية عندما سقط على كومة قريبة من الفحم المتوهج، ومع ذلك واصل غناءه. وعندما رفعه التلاميذ وجدوا أن بعض الفحم الحي قد التصق بظهره ويشوي لحمه، فذعروا من ذلك المشهد المريع، لكن المعلم ابتسم وقال بهدوء "طيب انتزعوا الفحمات بدلاً من كل هذا الارتباك!" ولم يشتكِ من أي ألم. ذلك هو الترفع العقلي الذي يثبته المعلمون. وفي هذه المناسبة برهن المعلم أنه كان بالفعل فوق الألم. أما في المناسبة الأولى فقد أظهر أنه كان متأثراً بالألم لكنه احتمله بصبر وتواضع.

يجب اتخاذ موقف حازم من الجسد ومتطلباته. تقول الأسفار المقدسة أن أفكار الحرارة والبرودة واللذة والألم تنجم عن ملامسة الحواس لمولـّدات تلك الأفكار أو الإحساسات. لكن تلك الأفكار والإحساسات محدودة ببداية ونهاية. إنها عابرة زائلة في طبيعتها فينبغي احتمالها بصبر وأناة. لماذا التأثر بقليل من البرودة أو الألم. يجب تنمية شجاعة نفسية أكبر بتهذيب العقل على التحمل إلى أن يتمكن أخيراً من الترفع عن كل ضروب الألم والمتاعب الأخرى.

الجسد هو مجرد قفص مكسو باللحم، به يعيش طائر الحياة لفترة زمنية محدودة. الحياة بذاتها متحررة تماماً من الجسد، لكن الحياة أصبحت مرتبطة ومقترنة بحالات الجسد المحدودة المقيّدة، ولهذا فإنها تتألم.

أثناء ساعات اليقظة تكون على دراية بالإحساسات الجسدية. أما أثناء النوم، عندما يكون عقلك متحرراً من الجسد لا تكون على دراية بتلك الإحساسات، بل تشعر بسلام عميق.

وكون الإنسان مخلوقاً على صورة الله فباستطاعته العيش في الجسد منفصلاً كلياً عن الإحساسات الجسدية. لكنه بدلاً من ذلك يأخذ على عاتقه حالات الجسد ويجعلها حقيقية أكثر من اللزوم.

للتحرر من الإحساسات يجب أن يفصل الشخص نفسه عقلياً عن الجسد. لهذا ينصح القديسون بالترفع النفسي عن أحاسيس اللذة والألم معاً، وهذا لا يتم إلا بالممارسة. لقد برهنت هذه الحقيقة لذاتي وأعلم أن الحساسية المفرطة تنطوي على أضرار كثيرة. إن الاستجابة الصاغرة لمتطلبات الحواس هي علة كل ألم وشقاء. الله لم يكتب علينا التألم والمعاناة. لقد خلق المدركات الحسية كي تهدينا وتسلينا، وأرادنا ويريدنا أن نستخدم الآلة الجسدية بحكمة لا أن نرتبط بها لدرجة تجعلنا تعساء أشقياء. إن أحب إنسانٌ حيواناً أليفاً بتعلق كبير فإنه سيتجاوب مع إحساسات ذلك الحيوان، مع أنه غير مرتبط جسدياً بالجملة العصبية به. وبنفس الكيفية فإن آلامنا الجسدية ناجمة عن التعلق النفسي الكبير بالجسد.

يجب أن يحرز العقل سيادة أكبر على الجسد. رائع أن يتمكن الإنسان من العيش بقوة العقل لأن العقل يستطع فعل كل ما تطلبه منه. وما هي الطريق للإعتماد أكثر فأكثر على العقل؟ بتعويد النفس تدريجياً على الحرارة والبرودة، على النوم على فراش قاسٍ، وعلى التقليل من الإعتماد على وسائل الراحة المألوفة.

أثناء تحدثي كنت ساهياً تماماً عن درجة الحرارة المرتفعة اليوم، ولكنني لمجرد ذكر الحرارة أخذت أشعر بها.

ذات مرة كنت أحاضر في طقس حار للغاية. إضافة إلى ذلك فقد ازدادت الحرارة داخل جسمي، مثلما تزداد كلما أحاضر في الروحيات. وقال عقلي: "لا تستطيع إكمال المحاضرة دون أن تمسح وجهك الذي يتصبب عرقاً."

تحسست جيبي بحثاً عن منديل لكنني لم أجده. عندها نظرت إلى العين الروحية وأوحيت إلى عقلي: "لا يوجد حر على الإطلاق." وعلى الفور تلاشى الشعور بالحر الخانق وواصلت المحاضرة بهدوء واستمتاع ببرودة ملطفة.

مارس هذه الأشياء بنفسك وتأكد ما إذا كان ما أقوله صحيحاً أم لا. باستطاعتك مضاعفة الألم بالحساسية وتخفيفه بالتحرر العقلي. عندما يتوفى عزيز علينا فبدلا من الحزن المفرط يجب أن نتيقن أنه ذهب إلى مستوى أرقى تلبية للإرادة الإلهية وأن الله يعلم ما هو أفضل له. يجب أن نشكر الله على تحريره ونبعث له بأفكار المحبة والأماني الطيبة سائلين الله أن يتقبله ويبسط عليه رحمته ورضوانه في دار الخلود حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

من الطبيعي أن نفقد أحبّاءنا المفارقين وإلا لما كنا بشراً. لكن مشاعر الحزن تؤثر بهم سلباً وتبقيهم أقرب إلى المستوى الأرضي من السماوي. الكآبة المفرطة تمنع النفس المفارقة من التقدم نحو سلام أعظم وحرية أكبر.

إن معظم ساكني الأرض اليوم ما كانوا هنا منذ مائة سنة. آخرون كانوا هنا قبلنا. ونحن أيضاً لن نكون هنا بعد سنين من الآن. سينتهي دورنا وينقضي أجلنا، والأجيال القادمة لن تفتكر بنا، بل سيشعر الناس آنذاك مثلما نشعر الآن أن هذا العالم هو عالمهم، لكنه سيؤخذ منهم ويؤخذون منه الواحد تلو الآخر. لا بد أن الموت ضرورة بشرية وإلا لما سمح الله الرحيم بحدوثه لأي شخص. فيجب أن نعزز ثقتنا بالله وأن لا نخشى الموت.

الذين يرهبون الموت لا يمكنهم التعرف على طبيعة نفسهم الحقيقية. قال شكسبير: "الجبناء يموتون مراتٍ عديدة قبل موتهم، أما الشجاع فلا يذوق الموت إلا مرة واحدة."

الجبان يصرف أيامه في حالة نفسية من الألم والموت البطيء. الشجاع يختبر الموت الأخير وحسب، بسرعة وبدون ألم. إن مات شخص موتاً طبيعياً أو كان متقدماً روحياً فإن وعيه الروحي يستيقظ فور موت الجسد ويجد نفسه في مستوى آخر من الوجود.. مستوى له كل الإحساسات لكن من دون الجسد.

الإدراك مقره العقل. في الموت يسلخ الإنسان عنه جسمه المادي الكثيف الذي هو صورة للعقل من طبقة دنيا وعلة كل متاعب النفس.

هناك نوعان من الناس: الشكاؤون البكاؤون على مساوئ العالم، والمتغلبون بابتساماتهم على مصاعب الحياة.. المحافظون على إيجابيتهم بالرغم من الظروف المعاكسة. لا حاجة لأخذ الأمور على محمل كبير من الجدية. لو كان كل إنسان على قدر أكبر من الإيجابية والإنسجام لكانت أحوال هذا العالم أفضل بكثير مما هي عليه الآن.

في أدغال الحضارة.. في مصاعب وتعقيدات الحياة العصرية يكمن الإمتحان. كل ما يصدر عن الإنسان سيعود إليه إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ. من يكره الآخرين سيكرهه الآخرون. ومن يملأ نفسه بالأفكار السلبية والعواطف المتنافرة يدمر شخصيته ويقضي على سعادته بنفسه. إن شعرت بالغضب تمشَّ وعِدّ من واحد إلى خمسة عشر، أو حوّل تفكيرك إلى شيء محبب بهيج. عندما يسيء الغير معاملتك فليس من الحكمة أن ترغب في معاملتهم بالمثل. حينما تكون غاضباً يغلي دماغك وتعاني صمامات قلبك ويصبح جسمك مسلوب الحيوية منهوك القوى. ابعث بأمواج السلام والخير التي تعبّر خير تعبير عن الطبيعة الحقة لروحك، لصورة الإلوهية في داخلك. عندها لن يقوى أحد على خضّك أو تعكير صفوك.

خلاصة القول كل شيء يبدأ في العقل. الخطيئة من خلق العقل. الأطفال الصغار يسيرون عراة دون أي شعور بالخطيئة. كل شيء نقي لصاحب الفكر الطاهر النقي، أما

بالنسبة للفاجر الخليع فكل شيء يبدو سيئاً وشريراًً.

(إذا ساءَ فعلُ المرء ساءتْ ظنونهُ وصدَّق ما يعتادهُ من توهّم ِ)

العقل غير المنضبط يخلق الإضطراب في حياتنا. ذوو العقول المستعبدة للحواس هم مشعلو نيران الفتن والحروب وأقطاب الظلم والظلام.

لقد ركـّب الله أرواحنا في هذه الأجساد المزودة بالإحساسات لكي نتمكن من العيش في هذا العالم والإستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، دون أن نرهن سعادتنا بما يدور حولنا من أحداث ومتغيرات دائمة التقلب والتبدّل. كما يريدنا الله أن نتحكم بمشتهياتنا بدلا من السماح لها بالتحكم بنا وأن نمتلك اتزاناً عقلياً ليس عندما يكون كل شيء باسماً مشرقاً وحسب، بل في صميم المصاعب وخضم المتاعب أيضاً. إن معرفة الذات تمنحنا تلك السيادة.

رقصة الحياة والموت لا تتوقف، لكن الإنسان يمتلك المقدرة النفسية للترفع عن كل الإختبارات الحسية وعدم التأثر بتناقضات الحياة.

بإمكان الإنسان التغلب على نسبيات الحياة إن هو نظر إلى الأشياء والأحداث نظرة متوازنة. وبذلك يُظهر طبيعته الروحية التي لا يقوى شيء على قهرها والنيل منها.

الذين توصلوا إلى هذه المرحلة من الانضباط يعيشون ملوكاً بين الأنام ويتوحدون مع المطلق اللانهائي الذي لا يخضع للتغيير والتبدّل.

إن تعاليم اليوغا الروحية تعالج تفاصيل الحياة بدقة متناهية وتلقن الكيفية التي ينبغي بواسطتها أن يتصرف المرء تحت كل الظروف. الناس مخلوقون على صورة الله لكنهم فقدوا التواصل مع تلك الصورة المباركة وعليهم اكتشافها من جديد في باطنهم.

الذهب الصافي المطمور تحت أكداس التراب يبقى ذهباَ خالصاً ويحتفظ بكامل خواصه بالرغم من احتجابه. وللكشف عليه يجب الحفر في التربة والتنقيب عنه حتى يتم العثور عليه. وبالمثل فإن طبقات عديدة من العادات الصلصالية والإحساسات الطينية تغطي النفس الذهبية الشريفة. هذا "الطين" هو علة مشاكل الإنسان النفسية من عصبية وخوف وحقد وحسد وعُقد نقص ونظرات خاطئة وأساس كل الصفات الذميمة الأخرى. وللتخلص من ذلك الطين المهين يجب تنمية حالة نفسية قوية ومنيعة إزاء الجسد والحواس. التعلق بالجسد تنجم عنه مخاوف شتى. لقد تصورتُ في عقلي كل ضروب الألم وقهرتها جميعاً.

ولكي يدرك الإنسان أنه مصاغ على صورة الله النقية يجب أن يترفع عن الخوف والغضب ويقضى على الحساسية المفرطة. بعض الناس يصعب إرضاؤهم لأنهم مكبَّلون ومثقلون بعادات سطحية وتفاصيل حياتية تافهة. أما صاحب العقل القوي فبإمكانه القول: "باستطاعتي اليوم أن أنام على سرير وثير وغداً على الأرض لأنهما عندي سيّان." وقس على ذلك. هذا الحياد النفسي يدرّب العقل ويجعله يأتمر بأوامرك وينفذ ما تطلبه منه.

العقل أيها الأصدقاء مخادع للغاية. لكن بالتهذيب يتعلم الأدب ويحسن التصرف. عندما تقول "لا يمكنني الإستغناء عن ذلك النوع من الطعام" يردد العقل "الإستغناء عن ذلك النوع من الطعام أمرٌ مستحيل!"

ولكنكَ روحٌ أسمى من العقل. فلو قلتَ "لن أسمح لأي إنسان أو لأي شيء بأن يستعبدني" سيستجيب العقل ما دام الأمر حازماً والإيحاء قوياً. أنت سيد العقل والجسم معاً فلا تكن خادمهما ولا ترقص على أنغامهما.

التحرر من عبودية الحس هي الطريقة الوحيدة للسلام والسعادة. ومهما تكن الأحول والظروف حاول الترفـّع عن كل الحساسيات المؤلمة واجعل نفسكَ سعيداً لأن باستطاعتك ذلك!

تقول نصوص الحكمة الشرقية:

"إن حالة السكينة النفسية التامة التي يتم بلوغها بتأمل اليوغا..

والتي بها تفرح النفس برؤية الذات العليّة ساطعة كالشمس في عز الظهيرة..

حيث تدرك وتتذوق بصيرة ُ الروح الفرحَ الأعظم..

ويبتهج اليوغي بمعرفة السر المكنون.

من يصل إلى تلك الحالة المباركة يهنئ نفسه لعثوره على كنز الكنوز..

ويظل آمناً من غدر الدهر ومفاجآت الحياة.. مطمئناً في ذاته..

تلك الحالة التي تعرف باليوغا.. هي حالة التحرر من الحزن والألم.

فطوبى لمن يسعى لبلوغها بقلب جريء وتصميم قاطع..

وهنيئاً لمن يعثر عليها ويتنعم بغبطتها التي تفوق حد الخيال..

وتعصى على الوصف.."

والسلام عليكم.

ملاحظة إلى القارئ الكريم:

ندعوك لمعاودة قراءة هذه المواضيع الروحية مؤكدين لكَ بأنك إن أعدت قراءتها بتمعن بحثاً عن درر الأفكار وروح المعاني فستجد في كل مرة مدركاتٍ جديدة تختلف عن سابقاتها وكأنك تقرؤها للمرة الأولى. وفي هذا تكمن أهمية هذه التعاليم ومصداقيتها. وهذا يذكرنا بالقول المأثور:

في الإعادة أكبر إفادة It is through repetition that we learn the most

الإتزان العقلي وسط المتغيرات Empty رد: الإتزان العقلي وسط المتغيرات

لمسة خيال
لمسة خيال
عضو مميز
عضو مميز
رقم العضوية : 12518
الجنس : انثى عدد المساهمات : 1700 نقاط التميز : 1959 تقييم العضو : 78 التسجيل : 03/05/2012 العمر : 27 الإقامة : سكيكدة وافتخر ليمعجبوش الحال ينتحر ويكتب في قبروا منقهر
تمت المشاركة الخميس سبتمبر 20, 2012 9:10 pm
الإتزان العقلي وسط المتغيرات 565164
التوقــيـــــــــــــــــــــع


لمـ♥̨̥̬̩سة خيآإل دآإئمـ♥̨̥̬̩آإآإ في آإلبـ♥̨̥̬̩آإل
الإتزان العقلي وسط المتغيرات 081f049832
الإتزان العقلي وسط المتغيرات Img_1368204494_736
الإتزان العقلي وسط المتغيرات Img_1368204500_570

الإتزان العقلي وسط المتغيرات Empty رد: الإتزان العقلي وسط المتغيرات

MiMiToU_ii
MiMiToU_ii
عضو محترف
عضو محترف
رقم العضوية : 12611
الجنس : انثى عدد المساهمات : 10943 نقاط التميز : 13536 تقييم العضو : 132 التسجيل : 15/05/2012 العمر : 25 الإقامة : • فــــــي قلـــبه } ^_~ {..♥
http://www.guelma24.net
تمت المشاركة الخميس سبتمبر 20, 2012 9:17 pm
الإتزان العقلي وسط المتغيرات 357296
التوقــيـــــــــــــــــــــع




عندما ﺗتحدث  Neutral : فيّ ظہر احدهمم
حاول ان تَتحدث فيمآ .  drunken
. تستطيع ان تتحملہ ﺂنت ! What a Face
-لآنكك ستُبلآ بہَ يوما ما  clown

الإتزان العقلي وسط المتغيرات Empty رد: الإتزان العقلي وسط المتغيرات

avatar
زائر
زائر
تمت المشاركة السبت سبتمبر 22, 2012 9:50 pm
عوافي على الطرح الجميل والرائع
وسلمت يمناك على الانتقاء الاكثرمن رائع
ولاحرمنا جديدك الشيق
ودي لك
استعرض الموضوع التاليالرجوع الى أعلى الصفحةاستعرض الموضوع السابق
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى